قرأت باهتمام كبير مقال الأستاذ " أبو أيمن" بعنوان: " في مرجعيات جبهة التحرير الوطني"، الذي تساءل فيه عن خلفيات وجدوى طرح هذه المسألة وهل الهدف هو إعادة النظر في مرجعيات الأفلان أم تجذيرها وتفعيلها. وأجدني في البداية منحازا إلى فتح نقاش بلا حدود حول كل ما يتعلق بمستقبل الأفلان، بعيدا عن "الإملاءات" التي تأمر وتنهي وأيضا تلك التي توزع الاتهامات، ذلك أن سؤال المستقبل بالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني يقتضي فتح أوسع نقاش يخوضه الأفلان بينه وبين نفسه وأيضا مع محيطه العام، حتى لا ينعزل وينكمش على ماضيه وحتى لا يتكلس وتصاب مفاصله بالضمور والهزال. وأجدني كذلك مدفوعا لتوضيح ما قد يبدو واضحا، وهو أن الأفلان الذي يعني مناضليه بالدرجة الأولى باعتبار أنهم المعنيون بتحديد مستقبله وتحديد مصيره لا ينبغي عزله عن محيطه الذي يتغذى منه ويعيش من أجله، إذ أن الشعب هو أساس وجوده، وهنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة أن يعكس الأفلان، برجاله ونسائه وبرنامجه ومواقفه، ما يرجوه منه الجزائريون، وإلا أصبح مجرد هيكل بلا روح ولا فائدة. لذلك يصبح من الضرورة الملحة والعاجلة، إعادة "تلميع" وإبراز صورة الأفلان وتحديد ماهيته وضبط معالمه وبلورة توجهاته، وهنا قد يقول قائل- وهذا ما يفصح عنه مقال الأستاذ أبو أيمن تلميحا أو تصريحا-: هل فقد الأفلان خصوصياته ومميزاته وأصبح بلا لون ولا رائحة، ومن ثم وجب عليه أن يبحث عن هوية قديمة كانت أو جديدة؟ وقد نتساءل: هل الأفلان حزب الماضي الملتصق فقط بمرجعية بيان أول نوفمبر وما تلاه من مواثيق ونصوص؟ وهنا أجدني مع " سي أبو أيمن" حريصا على تلك المرجعية، لصيقا بها وغير مفرط فيها مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الأزمان، لكن ماذا عن المستقبل، كيف يمكن تحويل روح جبهة التحرير التاريخية التي تشغل مكانة مرموقة في الذاكرة الجماعية للشعب إلى طاقة حية تلهب حماس المناضلين والأنصار والمتعاطفين. إن الجزائر بحاجة إلى الأفلان الموحد والقوي والمستقبلي، المعتز بتاريخه والمتمسك بمرجعيته، لكن ما هي الآليات الكفيلة ببلوغ ذلك الهدف وبما يضمن أن يكون الأفلان حزب المستقبل والقاسم المشترك الأكبر لأغلبية الجزائريين على رقعة المشهد السياسي التعددي والأكثر ارتباطا بواقعهم وبطموحاتهم. يقول المثل: " اعرف نفسك حتى تعرف عدوك"، وبالتأكيد فحزب جبهة التحرير الوطني يعرف نفسه جيدا وهو ليس بصدد البحث عن هوية أو نسب، لكن ذلك كله لا يمنع من ضرورة فحص الزاد وبلورة الرؤى وضبط المعالم، دون الإخلال بالمبادئ الأساسية والأفكار الحية والمرجعيات القائدة. إن الأفلان مطالب بين الحين والآخر بأن يراجع نفسه، يتأمل ويتدبر ويستشرف ويصحح، كما أنه مدعو إلى تأكيد قدرته على التأقلم والتكيف مع المتغيرات والمستجدات، دون المساس بجوهر المبادئ والأفكار والقناعات التي ينبغي أن يعرف بها حزب جبهة التحرير الوطني وتعرف به كعلامة مسجلة. إن من حق الأفلان بل مطلوب منه، يا أستاذ أبو أيمن،- وهذا ما يقتضيه منطق التعددية- أن يتفرد ويتميز بمرجعيته وطروحاته، ثم إن الأفلان لا ينبغي أن يكون ذلك الحزب الراكد والجامد، الذي يعيش على مخزونه التاريخي ورمزية شعاره وأمجاد ماضيه، بل يجب إعطاء الأفلان صورة الحزب العصري المتجه بعزم وثبات وقوة نحو المستقبل، ولكن غير مقطوع الصلة بتاريخه ومرجعيته وأجياله، إذ أنه يتبنى تاريخه ولا يتنصل منه، يتحمل مسؤوليته كاملة منذ ولادة جبهة التحرير إلى اليوم، يعتمد على تراكم أفكاره الحية من بيان نوفمبر إلى الصومام إلى طرابلس إلى ميثاق الجزائر وصولا إلى آخر نص صادر عنه. سؤال المستقبل يقتضي من الأفلان أن يكون أمينا على مبادئه، وفيا لمرجعيته، وفي نفس الآن أن يتجدد في فكره، في خطابه، في تعاطيه للفعل السياسي، في قدرته على التكيف بإيجابية مع المتغيرات وكذا مواكبة الأحداث بمواقف واضحة وصارمة من القضايا الأساسية مثل: الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، اقتصاد السوق، الإسلام، اللغة العربية، الأمازيغية وإلى غير ذلك من المسائل ذات الصلة المباشرة بمشروع المجتمع الذي يتبناه الأفلان. وأدعو الأستاذ "أبو أيمن" إلى أن نفكر معا في قراءة متأنية لبيان أول نوفمبر بغرض الغوص في عمق أهدافه واستيضاح مضامينه وما يعنيه اليوم- على سبيل المثال- مدلول " دولة ديمقراطية، اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية"، وإذا كان واضحا أن الهدف ليس التشكيك ولا إعادة التأسيس ولا التخلي عن هوية الأفلان، أليس المطلوب هو التثبيت والتكريس والتفعيل لتلك المرجعية التي لا يجب أن تبقى مجرد حروف ونصوص. ألا يرى الأستاذ أبو أيمن أن تلك المرجعية بحاجة إلى " تلميع" يعيد لها نصاعتها، ثم ألا يجدر التساؤل: هل لحزب جبهة التحرير اليوم وجود وفاعلية في الشارع السياسي تتناسب مع حجمه، ما الأرضية التي يقف عليها، ما هي قاعدته الاجتماعية وما هو تيار الرأي الذي يحدد سياسته وهل تعكس مواقفه ما تضمنته مرجعياته. كيف يمكن في إطار تلك المرجعية أن يتجدد فكر الأفلان وكيف يمكن إبراز تلك الهوية التي لا تتنكر للماضي ولكنها لا تجمد فيه، أليس المطلوب هو بلورة رؤية استشرافية، ترتكز على الأفكار الحية وتنطلق إلى الحراك الفكري والاجتماعي ورهانات المتغيرات الداخلية والخارجية وكذا تحديات رسالة الأمل المعلقة على حزب جبهة التحرير الوطني، باعتباره حامل تراث الوطنية، الذي عليه أن يثبت بأنه حزب المستقبل وأن لديه القدرة على التميز، من خلال تجسيد خاصيته الشعبية وجوهر وجوده كحزب ديمقراطي في تسييره، مؤتمن على إرادة الشعب والثوابت الوطنية وقيم الجمهورية ودولة الحق والقانون. نعم، يا أستاذ أبو أيمن، يجب التمسك بالمرجعية، لكن ماذا عن المستقبل.. ذلك هو السؤال؟. " إذا أردت شيئا واحدا من الحياة فلتكن الحرية.."