منذ أن تعرض المعتزلة إلى محنة التشكيك والنفي والاستبداد من قبل فقهاء البلاط وحراس النوايا وجماعات احتكار فهم المقدس، منذ ذاك التاريخ أهدر تراث هؤلاء وأبيدت صحائفه مثلما اغتيل وعذب أعلامه ومفكروه بدءا من القرن الثالث، ليترسم نمط أحادي في التفكير وأنساق من الفهم تنتصر للنقل قبل العقل وتتحول معها العقلانية إلى شرك ) بفتح الشين والراء( عظيم. منذ ذاك التاريخ بهت نور العقل ومحاولة الفهم وتعطلت إرادة الاجتهاد، وبدا التنصيص والاقتباس والشروح من صميم العمل العقلي ومنهاج الاستدلال في المسائل وجوهر القضايا، وزاد الأمر فالتبس على الناس بأن تحول المشتغلون غلى المقدس إلى مقدسين لهم واجب الطاعة والتقدير ويصعب مخالفتهم في الرأي، ويلبس ثوب الفضيلة كل من اشتغل بتخصص في العلوم الشرعية مع أنها مثل بقية العلوم الإنسانية والطبيعية مجرد تخصص أكاديمي لا يتيح لصاحبه سمو المنزلة والدرجة الاجتماعية الرفيعة إلى حد القداسة. زاد الأمر عن حده أكثر بتحول المؤسسات الدينية ومراكز الفتيا والمجالس العليا إلى سلطة فوق كل السلطات يمكنها أن تصدر حكما أو رأيا يطعن في منجز علمي ما أو منجز أدبي أو فني وبأنه ضد الدين أو الذات الإلهية أو الموروث الديني للأمة. استوى الأمر على سوقه الآن بعد قرون من التحالف المقدس بين الديني والسياسي، او بعبارة أدق بين الفقهاء وحكام البلاط، واقترنت المسألة بالامتيازات والإقطاع والوقوف إلى صف الأقوياء والنافذين بدل الفقراء والضعفاء، ولم يعد مستغربا الرخص التي يحصل عليها الحكام والولاة لقمع المحتجين وثوراتهم في مختلف الأقطار والأمصار، إضافة إلى إشاعة ثقافة قدرية تحبذ الطاعة والاستكانة لأولي الأمر. لا يحفل التاريخ الرسمي بأدوار الثوار وأهل الانتفاضات وطلاب العدالة الاجتماعية، كما لا يكترث كثيرا بأنصار المستضعفين ورواياتهم الرائعة ومواقفهم النبيلة وخطابهم الواعي بضرورات التغيير الاجتماعي امتثالا للدين وحرصا على سنة النبي محمد، وتجد أمثلة ذلك لدى أهل السنة والجماعة الذين وقفوا موقفا وسطا منذ واقعة الجمل ثم الفتنة الكبرى. منذ ذاك التاريخ تحولت الخلافات السياسية بين الصحابة إلى خلافات دينية ومذهبية، وتم إقصاء تراث هائل يكاد يحول الإمام علي لدى أهل السنة إلى شبح، رغم دوره وقيمته وقربه من بيت النبوة، وكذلك الأمر مع فاطمة كأن يقل تماما الأحاديث التي ترويها عن أبيها، لصالح كمّ عرمرم من أحاديث عائشة وأبي هريرة، وكذا الموقف مع الصحابي أبي ذر الغفاري وغيرهم، و بالمثل وقف الشيعة موقفا شبيها من عائشة وعمر.. تبدو محنة العقل أكبر اليوم ونحن نرى فداحة غيابه والمساحة الضحلة التي يشغلها في بنية التفكير لدى الشعوب العربية وحكامها ولدى الأحزاب وحركات الإسلام السياسي.. المحنة كبيرة والغد مفعم بمؤشرات الخيبة والظلام. ¯ أما بعد: ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحزم ونائل ¯ أبو العلاء المعري