رفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شعار محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية وهو يستعد للظفر بعهدته الثالثة، وما إن استوى له الحكم حتى أعلن عن إنشاء آليات جديدة لمحاربة هذه الظاهرة التي أصبحت تُهدِّد المجتمع بالاجتثاث من جذوره وتُبعِده عن مساره الصحيح. هل فرّطنا في أمانة الشهداء، رغم أننا نقيم لهم تماثيل- خارج قلوبنا- في العديد من الأيام، وأضعنا الجزائر التي حرّروها، ونزعم أننا على خطاهم سائرون، ونُؤكِّد ذلك في كل مواعيدنا الاحتفالية بذكراهم، التي كان آخرها يوم الثامن عشر من شهر فبراير الذي أسميناه يوم الشهيد، وأحييناه منذ يومين لو عاشوا بيننا بضعة أيام فقط لفروا مِنَّا وعادوا إلى مقاماتهم الزكية، وهم يرون جزائر غير تلك التي أرادوها وصوّروا خريطتها بدمائهم، خاصة بعدما دقت حركة المواطنة نبني 2020 ناقوس الخطر الذي يتهدد الجزائر دولة ومجتمعا، وطرحت مبادرة بخمسين مشروعا مقسَّمة على خمسة محاور، تعتبرها بديلا لا بد منه للواقع الذي يخنقه انحباس تنموي ناتج أساسا عن سوء حوكمة الإدارة والحياة العامة، خاصة بعد أن أصبحت الخزينة العمومية نهبا لمحترفي السرقة وهواتها على حد سواء، فأكثر من عشرين مليارا فقدتها خلال السنوات القليلة الماضية فقط من البنوك ومراكز البريد، في وقت تزداد فيه روائح الفساد المنبعثة من المؤسّسات التي كان آخرها الدخان الفاسد الذي نفثته أعمدة البترول المشتعلة في الصحراء الجزائرية، ولم نستطع شمَّه إلا حينما جاءت به الرياح الإيطالية، حيث فتح النائب العام الإيطالي ملف فضائح شركة سايبام، فامتدت أوراقه إلى سونطراك وبعض فروعها، فظهرت زأم الجزائريينس كأنها بقرة اليتامى في الأسطورة الشعبية، ولكن هل يمكن أن تنجح مبادرة المواطنة، والبعض من العابثين بالحق العام مُحصَّنون عن أحكام العدالة، والبعض الآخر لم يطلهم الردع الحازم في تنفيذ أحكام القضاء، وهو ما جعل الجزائر تحتل المرتبة الثالثة والسبعين من مجموع مائة دولة في مجال تطبيق دولة القانون حسب التصنيف الدولي ؟. صحيح أن الجزائريين دخلوا مرحلة خطيرة انتقلوا فيها من الثراء الذي ظهرعلىأقليّة منهم بسبب قربها من دواليب السلطة، إلى الثراء الفاحش الذي لم تستطعمنظمة ''شفافية'' الدولية أن تُصنِّف الجزائرعلى ضوئه، بعد ما شنّت تلك الأقلية حربا على الجزائريين، أحرقت بها جيوبهم، ومرّغت لهم في التراب لقمة عيشهم، وحوّلت أغلبيتهم إلى نادي الشحاتين، بحيث أدَّت الحرائق التي أحدثتها عمليات النهب الأفقي في إطار الصراع الدائر بين الزّمر السياسية المتحكِّمة في إدارة الشأن العام، إلى انتشار واسع لرقعة الحرائق على المستوى الشعبي، مما جعل الحياة تُسْوَدّ في وجه الجميع، وقد ضربتها ريحٌ مُحمَّلة بكل أنواع الرماد، دون أن تتحرّك الهيئات المختصة القادرة بآلياتها على تنقية الأجواء، وتركت الصحافة وحدها تجتر كل يوم حوادث السرقات والاختلاسات، حتى بدت وكأنها تقوم بالإشهار لها لا بالتشهير بها، وما كان ذلك ليقع لو لم تُحتكَر السلطة من طرف نظام جعلها تسلّطا، غُيِّبت فيه المحاسبة الشعبية للمسئولين السياسيين، ما أدّى إلى الغياب الكلِّي لمساءلة المتسبِّبين في إعطاب الشأن العام، وهي الحالة التي أدّت بدورها إلى تعميم ثقافة النهب على كل المستويات. رفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شعار محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية وهو يستعد للظفر بعهدته الثالثة، وما إن استوى له الحكم حتى أعلن عن إنشاء آليات جديدة لمحاربة هذه الظاهرة التي أصبحت تُهدِّد المجتمع بالاجتثاث من جذوره وتُبعِده عن مساره الصحيح، إلا أن صعوبات كبيرة تبدو أنها اعترضت عليه الطريق، فالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لم تُنصَّب إلا بعد أربع سنوات من إنشائها، والمرصد الوطني لمحاربة الفساد تأخَّر تنصيبه لثلاث سنوات أيضا، وتعطَّل قانون الوقاية من الفساد، ولم تنفع الصلاحيات الواسعة التي أُعطِيّت لمجلس المحاسبة والمفتِّشية العامة للمالية، والأضواء الخضراء التي أُشعلِت لصالح عمل القضاة لم تعد تُنير لهم الطريق في المسك بملفات الفساد وملاحقة المفسدين، وبقي الإعلام وحده يُصوِّر مجتمع الفساد حتى غدا سِجِلاًّ يترك فيه المفسدون بصماتهم وآثارهم على حياة الناس يوميا، وهكذا ظل السؤال الذي طُرِح في أكثر من مرحلة من مراحل الجزائر المستقلة، ومن أكثر من شخص وجهة : من أين لك هذا ؟ بدون إجابة إلى أجلٍ غير معلوم، بل سؤالا بلا معنى . إن تحطيم قواعد شبكات الفساد يبدأ- في اعتقادنا- بإنهاء الاحتكار السياسي للسلطة، وإشاعة العمل الديمقراطي الذي ينخرط فيه الجميع بإعلانهم الحرب الشاملة على الفساد وجنوده وضباطه وجنرالاته وقادته في أيِّ موقع من مواقع المسئولية، لأن الفساد الاقتصادي ما هو في الواقع إلا رجع صدى للفساد السياسي الذي جعل مَن بيده الأمر يحارب المندِّدين بالفساد أكثر من محاربة الفساد نفسه، كما يرى ذلك السيد جيلالي حجاج رئيس الجمعية الجزائرية لمكافحة الفساد، وقد أخاف هذا الواقع المحامي فاروق قسنطيني فجعله يدعو بملء فيه، إلى التطبيق الصارم للقانون على المختلسين، ولكن لن يتم ذلك- كما يريد- إلا عن تحرير القضاة من كل أنواع الضغط المُصوَّب عليهم سواء من مراكز الجامعات الضاغطة أو من طرف الجهاز التنفيذي، لأن ذلك هو العنوان الصحيح لاستقلالية القضاء، وهذا يمر حتما بتثبيت قاعدة التوازن المفقود بين السلطات والفصل بينها، وإلى أن يحدث ذلك ستظل الجزائر ثابتة في مكانها التاسع والثمانين، الذي افتكته في مجال نوعية التنظيم العمومي، وقد تصل مديونيتها إلى ثمانين مليارا من الدولارات، بعد حوالي عشْر سنين، عندما يصل تعداد الجزائريين إلى أربعة وأربعين مليون نسمة، وتكون مواردهم الطاقوية قد نضبت وحاجتهم إليها ازدادت بشكل كبير [email protected]