شهد العهد العثماني بالجزائر « 1518م/ 1830م » تطوّرا ملحوظا للحركات الصوفية بمختلف طرقها السلوكية ومدارسها الفكرية ، وزواياها التي كانت تجمع بين التربية والتعليم وإصلاح ذات البين والنشاط الاجتماعي وإيواء الخائفين ، كما كانت منطلقا للجهاد ضد المعتدين والغزاة. ❍ وقد اجتهد في تعمير الزاوية وتجديد بنائها والتدريس فيها دون كلل أو ملل ، إلا أنّ ما يميز الشيخ الحاج بن علي اعتناؤه الكبير بجمع المخطوطات النادرة والكتب النفيسة ، ويعود إليه الفضل في تكوين مكتبة الزاوية ، حيث يُروى عنه أنه كان كلما دخل مكتبة إلا واشترى كتابا أو أكثر، وكان يهرع إلى أصحاب الكتب ويقتني منها ، وقد روى لي الشيخ عبد القادر عثماني حفظه الله في إحدى جلساتي إليه «15» أنه باع بستانا له ليتمكن من شراء مكتبة كانت قد عُرضت للبيع. وقد ترك العديد من الرسائل والقصائد ومن ذلك منظومة مخطوطة في التصوّف وفي الطريقة الرحمانية تضم « 800 بيتا ، أشار إليها الأستاذ المرحوم سليمان الصيد في كتابه تاريخ الشيخ علي بن عمر شيخ زاوية طولقة الرحمانية » ونشر ستة من أبياتها وهي : يقول داع المنهج العزوز الحاجُ بنُ علي غدَا للفوز الحمد لله رفيع الدرجات للزاهدين و مقيل العثرات ثم الصلاةُ على طه المختار بلا نهاية و لا حصار محمد من هو أتانا بالتلقينْ في ذا الطريقة رحمةً للدّاخلينْ يا رايم اتباع المصطفى ادخلْ في طريق الوفا بالقول و الفعلْ ادخل طريق الخلوتية يا صديقْ إن كنت رايمْ من الله التوفيق« توفي عام 1368 ه الموافق 1948 م. 6 الشيخ عبد الرحمن بن الحاج: والذي اشتهر بكتابه « الدّرّ المكنوز في حياة سيدي علي بن اعمر وسيدي بن عزوز» وقد ولد عام 1909 م ونشأ ودرس في رحاب زاوية أجداده ، وقد تولى مشيختها بعد وفاة والده واضطلع بإدارتها على أحسن وجه، ومن أبرز إنجازاته: - ترقية الزاوية وتطوير أدائها التربوي والتعليمي. - المحافظة على مكانتها في منطقة الزيبان والأوراس و الجزائر عموما. - تدريسه بنفسه للطلبة بالرغم من تشعّب انشغالاته و تعدّد مسؤولياته في الزاوية. كما أنه فتح الزاوية لمجاهدي ثورة التحرير المظفرة ، ومن ذلك استقباله للقائد سي الحواس وإيواؤه له ومن معه ثلاثة ليال سويّا خلال عام ,1955 علما أن هذا البطل هو أحد تلامذة الزاوية العثمانية بطولقة. ونتيجة لذلك تعرّض الشيخ للاعتقال والإهانة والتنكيل ، ولم ترحم إدارة الاحتلال بطولقة ضعفه الصحي ولم تنظر إلى مكانته بين قومه. من آثاره كتاب « الدّر المكنوز » المشار إليه آنفا الذي طبع عام 1350ه 1931م في « 36 صفحة » بمطبعة النجاح بقسنطينة لقريبه الصحفي و صاحب جريدة « النجاح » الشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي ، توفي عام 1966م ودفن بطولقة . 7 الشيخ عبد القادر عثماني بن الحاج : وهو أخ الشيخ عبد الرحمن صاحب « الدر المكنوز » والذي تحمّل أعباء الزاوية منذ عام 1966 إلى اليوم ، و إضافة إلى مشيخته للزاوية فهو عضو بالمجلس الإسلامي الأعلى و رئيس المجلس العلمي لولاية بسكرة ورئيس ملتقى الفاتح عقبة بن نافع الفهري ببسكرة الذي اعتمدته وزارة الشؤون الدينية والأوقاف عام .2011 وأحد علماء الجزائر ومجاهديها ومصلحيها ومن مراجعها العلمية لا سيما في مجال الإفتاء. ولد عام 1929 بطولقة ونشأ في أحضان هذه الزاوية ، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس اللغة العربية والفقه والعقيدة والتفسير والمنطق. خلال الثورة هاجر مُكرها إلى المغرب الأقصى وقد رَوَى لي بالتفصيل ظروف استقباله بها ، وقد احتضنته جبهة التحرير الوطني هناك حيث التحق بسلك التعليم مدرّسا ثم موظفاً بوزارة التربية بالمغرب. بعد الاستقلال عاد إلى بلاده وعمل بوزارة الأوقاف ثم بوزارة التربية والتعليم على التوالي ، حيث أسهم في إعداد الكثير من الكتب المدرسية في اللغة العربية و التربية الإسلامية. كما عمل على تجديد بناء الزاوية من خلال تشييد المكتبة الحالية و بناء سكنات عصرية للطلبة وتحديث طرائقها التعليمية وتجديد أداء وظيفتها التربوية وتفعيل مكانتها الاجتماعية ، من خلال الخطابة والدروس والإصلاح بين الناس. من مؤلفاته: كتاب مجموع محاضرا.ت ومقالات وفتاوى، قام بجمعها الأستاذ عبد الحليم صيد، طبع بمطابع عمار قرفي بباتنة في « 256 صفحة » عام 1426 ه 2005 م. تفسير القرآن الكريم ، الذي ألقاه مشافهة بمسجد الزاوية بداية من عام 1981 وأتمّه عام 2004 دون أن يقوم تلامذته بتوثيقه وتدوينه أو تسجيله! بالرغم من توفر مختلف وسائل التسجيل العصرية . محاضرات وخطب الجمعة و دروس و فتاوى. الدور العلمي للزاوية العثمانية بطولقة : إن الأساس الذي أنشئت لأجله الزاوية هو أن تكون منارة علمية ومؤسسة دينية، تستقطب العلماء والطلبة من كل حدب وصوب ، وتتصدى للجهل وعمليات محو الشخصية الوطنية. ولذلك فقد وضعت من أولوياتها تحفيظ القرآن الكريم للناشئة ، ومازال هذا الدور قائما إلى اليوم ودون مقابل ، حتى أنها ترفع شعار « الزاوية لا تقبل إعانة مالية من أحد » إضافة إلى نشر تعاليم الإسلام والقرآن الكريم والسّنّة النبوية الشريفة والعقيدة والفقه والتفسير واللغة العربية ، من نحو وصرف وبلاغة ، إلى جانب علم الفلك والرياضيات. وفي هذا المجال فقد تعاقب على التدريس بالزاوية الكثير من العلماء الأجلاء الذين لا يمكن أن تستوعب هذه المحاضرة أسماءهم ، سواء من العائلة العثمانية أو من خارجها ، أو من قبل العلماء و المصلحين الذين زاروها ويزورونها إلى اليوم. مع محاربتها الصريحة للزوايا البدعية ، وضمن هذا المضمار فإنها تصنّف الزوايا إلى ثلاثة أصناف حسب الشيخ عبد القادر عثماني«17» وتتمثل في : أ زوايا فاسدة منهاجها الموبقات والانحراف عن ثوابت الزوايا ، المتمثلة في تعليم القرآن والشريعة والتربية الخلقية والعمل النافع الشريف ، وينبغي على الدولة محاربتها. ب أما الصنف الثاني فهي الزوايا الصالحة التي تؤدي رسالتها التي أوكلت إليها في الأصل وهي زوايا لا تحتاج من الدولة شيئا. ج وفيما يخص الصنف الثالث فهي زوايا تمزج بين الفاسد والمفيد « السلبي و الإيجابي » ويجب على الدولة أن تحارب فيها ما هو فاسد وتشجّعها على ما هو صالح.كما يعيب على الكثير منها انغماسها في السياسة و التحزّب. وحاليا تضم الزاوية « 30 طالبا قدموا من عدة ولايات. وبالإضافة إلى تحفيظ القرآن الكريم فهي تدرّس اليوم حسب الشيخ سعد عثماني أحد أساتذة الزاوية ونجل الشيخ عبد القادر تدرّس الفقه المالكي من خلال شرح رسالة أبي زيد القيرواني وتبرمج للطلبة حفظ متن ابن عاشر. أما النحو فتعتمد على دراسة ملحة الإعراب للحريري مع إلزام الطلبة بحفظ الأجرومية ، فيما يدرسون التجويد عن رواية ورش عن طريق الأزرق مع حفظ متن الجزرية. أما التفسير فيضطلع به إلى اليوم الشيخ عبد القادر عثماني و قد سبق له أن أتمّه بين « 1981 2004» ، مع شرحه للجامع الصغير للسيوطي يوميا. كما أن الشهادة التي تُمنح إلى الطلبة بعد تخرّجهم معترف بها لدى مصالح الدولة الجزائرية ، و تمكنهم من المشاركة في مختلف مسابقات التوظيف التي تنظمها مديريات الشؤون الدينية و الأوقاف عبر جميع الولايات. كما تضطلع بدور اجتماعي متميّز يتمثل أساسا في إصلاح ذات البين ، بين الأفراد و الجماعات و الأعراش. مكتبة الزاوية : ما يميّز الزاوية و دورها الثقافي والاجتماعي و يعزّز رصيدها العلمي ،مكتبتُها العامرة التي هي ملك للعائلة. و التي قلّ نظيرها لغناها ب «1509 مخطوط » ، وهذا رقم دقيق أعلمني به الشيخ سعد عثماني«18»و الذي يقوم حاليا بإنجاز فهرسة علمية شاملة للمكتبة ، يوشك على إنهائها«19» ، إضافة إلى كم هائل من أمّهات الكتب المطبوعة و المجلات. وتتوزع على كتب : التفسير، علوم القرآن ، الحديث، الفقه ، السيرة ، العقيدة ، الفلسفة، الطب، الفلك ، اللغة ، الأدب ، الدواوين الشعرية وعدد معتبر من الكتب المطبوعة طباعة حجرية وبولاقية وأخرى طباعة عصرية مجموعة من المجلات. وهي مفتوحة أمام المؤرخين والباحثين والأساتذة، مع التزام إدارة الزاوية بتوفير الإيواء و الإطعام لهم مجّانا. ومن أسباب المحافظة على هذه المكتبة العامرة من الاندثار وعوادي الزمن والظروف الطبيعية و أيادي الاحتلال، لاسيما العسكريين و المستشرقين من الفرنسيين على الخصوص، هو سهر العائلة العثمانية على حمايتها ومنع إعارة كتبها حتى للمؤرخين والباحثين الجادّين، فإذا سألت الشيخ عبد القادر عثماني مثلا عن مخطوط ز هل يمكن لي تصويره ؟ ز يجيبك : أي نعم ، لكن عليك إحضار آلة ناسخة صحيّة حتى لا يتأثر المخطوط. الزاوية إبّان الثورة الجزائرية: لم تتخلّف الزاوية العثمانية بطولقة عن ملحمة الشعب الخالدة ثورة أول نوفمبر «1954 1962 » في حدود إمكاناتها و ظروفها المحيطة، حيث آوت الكثير من المجاهدين ، ولعل أشهرهم القائد أحمد بن عبد الرزاق حمودة الشهير ب سي الحواس « 1923 1959 » و الذي سبق له أن درس بهذه الزاوية يوم كان طالبا ، والذي سيتولى بعد ذلك قيادة الولاية السادسة التاريخية برتبة عقيد ، حيث لبث فيها ثلاثة أيام خلال عام 1955 بعد أن أوكلت إليه مهمة اللقاء مع بعض الأعيان وشيوخ الأعراش للتقريب بينهم و لتوسيع نطاق الثورة بالزاب الغربي « بتراب ولاية بسكرة حاليا» فوجد في الزاوية الملاذ الآمن و في شيخها و في أفراد العائلة كل الرّعاية ، بالرغم من ظروفها الحرجة آنذاك«20» و لم يغادرها إلا بعد أن أنهى مهمته. ولمّا تفطن العدو للدور المشبوه الذي تقوم به الزاوية ، أمر زبانيته باعتقال شيخها عبد الرحمن عثماني عام 1957 فتعرّض للاستنطاق والمعاملة اللاإنسانية التي يُعدّ الفرنسيون المحتلون أساتذة لها ، مما أدى إلى تدهور صحته ، فيما هاجر أخوه الشيخ عبد القادر عثماني إلى المغرب الأقصى لتوكل إليه مهمة هناك«21»، وتمّ تعطيل عمل الزاوية ونشاطها التربوي والتهذيبي. و لم تكتف الزاوية العثمانية بطولقة بذلك بل قدّمت إلى ساحات الوغى الكثير من أبنائها ، على غرار ابنها المجاهد عبد الحميد عثماني والمجاهد الأزهري عثماني«22» ، وغيرهما من طلبتها ومريديها.