عاد الرئيس بفضل الله ورعايته، ولو قلت عاد الهمام، لما جانبت الصواب، ولما خالفني في هذا الوصف، كل منصف أمين، أجل، أليس من الهمة والإباء والصمود وبقطع النظر عن مآثر الرجل في الماضي والحاضر أن يتحدى مرضا خطيرا بشجاعة قل نظيرها، وأن ينتصر عليه بإرادة لا مثيل لها وأن يعود الى ممارسة مهامه بعزيمة أذهلت الصديق والعدو، ولا عجب، أنها عزة النفس ورفض الاستسلام الذي يصنع المعجزات، ورحم الله من قال ''عليك نفسك فاستكمل فضائلها.. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان«. وهل كان أحد يتوقع موقفا غير ذلك الموقف الأبي من حزب يرأسه أحد زعماء الثورة وقادتها البارزين، أعني بالذكر الأخ ''حسين آيت أحمد'' أمد الله في عمره. إن الأفافاس - كما أشرت الى ذلك في مقالات سابقة، هو الحزب المعارض الوحيد الجديد بهذا النعت، حيث يمتاز بالجدية في العمل والثبات في النضال والوفاء للمبادىء، ولست الوحيد الذي يشهد بهذا فكل المناضلين الاصلاء في جبهة التحرير وحتى تيارات سياسية اخرى يقرون له بهذا الامتياز، وما المبادرة الاخيرة التي قام بها الامين العام للافلان بمباركة من الرئيس ذاته، والتي تمثلت في الرسالة الاخوية التي وجهها الى الزعيم آيت احمد، الا كعرفان وتأكيد على المكانة التي يحظى بها هذا الرجل الفذ لدى الشعب الجزائري، وقيادته لهذا لم أفهم كما لم يفهم كثيرون غيري ممن يعرفون مواقف الارسيدي الملتبسة، كيف اختار السيد مقري ان يخصه بأول زيارة له ضمن مشاوراته، سعيا وراء توافق تشك أغلبية الاحزاب في امكانية حدوثه، ثم ها هو بعد ذلك وفي نفس المسعى يجمع كتلة العشرة (10) التي أصبحت أربع عشر (14) ثم ستة شر (16) حسب ما سمعته وقد تصبح كتلة العشرين أو أكثر إن استمر السي عبد الرزاق على هذا النهج، ولا عجب، فقد باتت الأحزاب تنبت ''كالفطر'' في كل يوم، الى درجة أني أتحدى أيا كان من المتابعين للشأن السياسي، ومهما كانت قوة ذاكرته، أن يسرد أسمائها كلها أو حتى نصفها بل ثلثها، خاصة وأن الكثير منها تتشابه بل تكاد تتطابق، هذه الجماعات أقصد (14) والتي تضم الى جانب ''الخضر'' أحزابا لا يهمها الا التشويش على الرئيس وإزعاجه، ولا اقول إحراجه، ناهيك عن زعزعته أو النيل من عزيمته - لأنها عاجزة عن فعل شيء آخر، الكل يعرف أن هذه التشكيلات لا وزن لها في الشارع، وإن كان لبعضها نوع من الصدى في الماضي، فقد فقدته مع مرور الأيام نتيجة لفشلها وعجزها وصراعاتها الداخلية، فهي اليوم تدور في حلقة مفرغة، كلما سألت أحد زعماء أو مسيري هذه الأحزاب عن تصوره لحل مشاكل البلاد الا وسمعت نفس الجواب ''يجب تغيير النظام'' واذا سألته عن كيفية تغيير النظام قال لك: الحل عند أصحاب القرار، هذه هي عبقرية معارضتنا، تتلخص في كلمتي ''النظام'' و''اصحاب القرار'' فباستثناء بعض التشكيلات التي لا تتعدى عدد اصابع اليد في أحسن الاحوال، كل هذه ''المجموعات:'' همها الوحيد هو المناورة من اجل التقرب من السلطة لعلها تحصل على بعض فتات موائدها، كما شهد بذلك شاهد من اهلها، اقصد السيد ''التواتي'' الذي صرح بالحرف الواحد أن 80٪ من هؤلاء المعارضين لاينتظرون الا اشارة من السلطة ليرتموا في احضانها مهللين شاكرين، وقد - وأقول قد - لا اكون مخطئا ان زعمت بأن ''حمس'' نفسها لا نتنظر الا ايماءة من السلطان لتعود الى حضنه الدافئ بعد أن أيقنت ان حساباتها كانت خاطئة ولو افترضنا أن بعض هذه الاحزاب يسعى فعلا الى إحداث تغيير حقيقي، فهل يتصور قادتها أن هذا التغيير سيحدث تلقائيا أو بسحر ساحر، بدون نضال دؤوب وعلى جميع الاصعدة؟ أم تراهم ينتظرون أن تدعوهم السلطة لتسلم لهم الحكم منة وتكرما ومكافأة على صبرهم وانتظارهم الذي لا ينتهي، إنهم حقا ''أحزاب الانتظار'' كما سماهم الصحفي المتميز الأخ ''نجيب بلحيمر''. وعلى ذكر ''موسى تواتي'' صاحب ''الأفنار'' الذي لا يتوقف عن انتقاد المعارضة الخائبة ناسيا أنه أحد رموزها البارزين، هذا الرجل المهووس بفرنسا يرى في كل تحرك - مهما كان - تقوم به الحكومة يدا نافذة للغرب ولفرنسا بالتحديد، وكأن فرنسا لازالت تحكم الجزائر، وينسى اخونا التواتي ان الجزائر تحررت منذ نصف قرن بفضل تضحيات الشهداء، وهو أحد أبنائهم مع الأسف. هذا الرجل الذي ثبت فشله في تسيير وقيادة حزبه بعد الفضائح التي يعرفها العام والخاص من انشقاقات وصراعات واتهامات، اصبح اليوم وبكل وقاحة ولا أقول جرأة يهدد بالنزول الى الشارع وكأن له جحافل من المريدين والانصار، ولو كنت مكان السلطة لشجعته على الخروج كي يعرف الناس - وأكثرهم يعرفون وزنه وحجمه في الشارع الذي يلوح به. تحدثت عن حماس وعن زعيمها الجديد ''مقري'' وكدت أنسى أخاه من''الرضاعة'' السيد مناصرة، ذلك الرجل الذي أصبح يوما ما وزيرا بالصدفة، أقول بالصدفة لأنه ما كان ليرقى الى الوزارة لولا فضل التحالف الرئاسي الذي أسس له المرحوم ''محفوظ نحناح'' وما أدراك ما نحناح لو أطال الله عمره لما وصلت ''حماس'' الى ما وصلت اليه من تشرذم وضعف ولما انشق عنها الأخ ''مناصرة'' وأسس حركة ''التغيير'' التي انشقت عنها هي الاخرى حركة سماها اصحابها ''حركة البناء'' وهي تسمية تدعو الى التفاؤل، فليتها كانت إسما على مسمى. ما كنت لأذكر الأخ مناصرة لولا تغير موقعه بثمانين درجة، حيث أنه يرى اليوم بأن التغيير لا يأتي الا عن طريق توافق يشمل كل ألوان الطيف من إسلاميين وعلمانيين ويساريين وهلم جرا، ما يحيرني في هذه الرؤيا التي اهتدت اليها عبقريته العجيبة هو: كيف يستطيع هذا الرجل الذي رضع من ثدي الحكومة ردحا من الزمن أن يوفق بين كل هذه الاحزاب التي اصبح عددها يقارب عدد سنوات الاستقلال، وحتى لو اقتصرنا على التشكيلات السياسية التي يمكن ان ننعتها تجاوزا بالكبيرة، فكيف يمكنه ان يجمع على خريطة طريق واحدة احزابا تتعارض في توجهاتها وبرامجها، إن كان لها أصلا برامج - تعارضا يصل حد التنافر والعداء أحيانا. كيف يستطيع أن يحقق هذا وهو الذي لم يتمكن من الحفاظ على وحدة حركته، ناهيك عن وحدة الحركات الإسلامية بكل فصائلها، والتي تبدو اليوم منقسمة اكثر من أي وقت مضى، كيف يستطيع أن يجمع كل هذه التكتلات على كلمة سواء إلا إذا كانت هذه الكلمة تتلخص كما قلنا من قبل - في عبارة واحدة لا غير، ألا وهي:'' منع بوتفليقة من الاستمرار في الحكم'' وهي العبارة نفسها التي يحاول زميله مقري أن يجمع الناس عليها ولكن هيهات. لن أكون منصفا ان لم أعرج على أخينا ''فوزي رباعين'' الرجل الذي احتكر الثورة التحريرية عندما سمى حزبه ''عهد ''54 كأن الثورة لم يشارك فيها أحد غيره وجماعته وليت حزبه كان له من القوة والإشعاع ما يرقى به ويجعله جديرا بعظمة الثورة، إذا لهان الأمر، وتجاوز له القوم عن هذا التطاول المثير، ''أخونا فوزي'' الذي ترشح للرئاسيات في السابق وخاب مسعاه، لو اكتفى بانتقاد اداء الرئيس وطريقته في التسيير ومواقفه من القضايا الداخلية والخارجية، لكان ذلك من حقه، شأنه شأن كل مواطن جزائري حتى لو، اختلفنا معه، لكنه بالغ في الاسفاف عندما قال فيما يشبه الكفر بالنعمة ونكران الجميل :أن بوتفليقة لم يقدم شيئا للجزائر، ولم ينجز أي شيء للوطن بالاموال الضخمة التي بذرها تبذيرا منذ مجيئه؟ هذا ولا يفوتني قبل أن أنتهي من هذه الجولة في دروب معارضتنا المنهكة، أن أشير باختصار الى مبادرة الثلاثة الذين خلفوا'' أقصد مبادرة الأستاذ ''رحابي وصاحبيه'' لو لم يكن الأخ رحابي من الوزراء المغضوب عليهم سابقا ومن السياسيين الذين وقفوا ضد بوتفليقة في سالف الأيام لقلت ومع احترامنا له- بأن مبادرته نابعة من موقف مسؤول عبرت عنه مجموعة من المثقفين لا تحركهم الا الغيرة على الوطن، لكن مادام الأمر تشتم منه رائحة الحزازات الشخصية فلا يمكن أن ندرجها الا في خانة المناورات السياسية، التي تدفعها روح الانتقام والرغبة في تصفية الحسابات مع الأسف، هذا لا يعني أننا ضد المبادرات التي تأتي من مثقفينا ومفكرينا، بل على العكس، نحن نأسف لعدم انخراطهم في الشأن العام وقلة انشغالهم بهموم الوطن كم تمنيت ولازلت أتمنى أن تطلع علينا دراسات جادة تمتاز بالامانة العلمية في تحليلها للوضع العام للبلاد، وتخرج بمقترحات موضوعية تسهم بها في انارة الرأي العام وتنبيه القادة الى أمور تساعد على حل مشكلات اليوم والاستعداد لتحديات المستقبل، ولكن يبدو لي مع الأسف أن نخبتنا الفكرية قد استمرأت الخمول والركود شأنها شأن النخبة السياسية إن جاز القول بأن لدينا نخبة سياسية. إن الكلام عن المعارضة في الجزائر وعن الوضع السياسي بصفة عامة طويل وطويل جدا، وهناك أشياء كثيرة لابد أن تقال لكن أرى انني أسهبت، ولذلك سأترك الخوض فيها لمقال آخر سيأتي لاحقا إن شاء الله. وقبل ان أختم لابد أن أشير الى أنني لا أعرف أحدا من الاخوة الذين أتى ذكرهم في هذا الحديث الا من خلال مواقفهم وما قرأت عنهم أو سمعت منهم ولذلك فأنا لا أحمل أي عداوة او حقد لهم،. بل على العكس، فأنا أكن لهم ما ينبغي أن يحمله أي مواطن لأخيه في الوطن والملة من محبة واحترام، ولكن الامانة الفكرية تحتم علي أن أكون صريحا غير مجامل فيما اعتقده حقا، عندما أتناول مواقفهم بالتقييم في إطار تحليلي للوضع السياسي العام في بلادنا، فمعذرة، اذا، إن أنا خدشت شعور بعضهم، فليس هذا قصدي، كل ما أهدف اليه هو كشف مواقف بعض السياسيين - لا أقول على حقيقتها، فقد أكون مخطئا، وإنما كما آراها ويراها كثير من المواطنين من نخب وعامة. خلاصة القول أن الرئيس قد عاد الى أرض الوطن في حفظ الله ورعايته، وخاب أمل أولئك البؤساء الذين راهنوا على مرضه ليعتلوا سدة الحكم، وأقول للبؤساء لأنني أرى ككل الشرفاء أن من البؤس، بل من الخسة، أن يستغل الانسان غياب خصمه ليطعنه في الظهر. فالكرماء لا يواجهون غريمهم إلا وهو واقف، ولا ينازلونه وهو مجرد من السلاح. وعندما نستبشر بعودة الرئيس ونطمئن على سلامة البلاد وبوجوده على رأسها، لا ندعي بأنه الرجل الوحيد القادر على قيادة الأمة، فالجزائر لم تعقم، ولا شك أن من بين أبنائها من هو أهل لاستلام المشعل عندما يحين الحين، لكن هذا الرجل الجدير بتحمل الأمانة لا يوجد بالتأكيد من بين هؤلاء الأشباح الذين يدعون الزعامة والقدرة على حل مشاكل البلاد الحالية والمستقبلية، وهم عاجزون ولو عن معالجة التخبط الذي تعيشه أحزابهم - إن جاز التعبير - لأن من بين هذه الاحزاب من لا يتعدى عدد مناضليها عدد مؤسسيها، ولولا تسيب الساحة السياسية لما كان لهم الذكر بين الناس سواء غابوا أم حضروا. انا على يقين بأن حب الوطن والخوف عليه خاصة في هذه الفترة العصيبة، الحبلى بالمخاطر والتحديات هو وحده الذي جعل الرئيس يستمر في تحمل أعباء مهمة تنوء بثقلها الجبال، رغم المرض، والتعب، ان الشعور الحاد بالمسؤولية هو بلا ريبة من يمد هذا الرجل بعزم وإرادة لا تفت فيهما لا وطأة الداء ولا مكائد الاعداء ومهما يكن وكما كتبت سابقا - وقد كان الرئيس لايزال على سرير المستشفى - ان بوتفليقة لابد وأن يترك الحكم يوما ما، انها سنة الحياة، وحينها سنرى هل سيكون هؤلاء ''المتزعمون'' في مستوى الامانة العظمى التي ستؤول اليهم، اتمنى ذلك وان كنت أشك فيه، نعم أتمناه مخلصا، وذلك حرصا على الجزائر ومستقبل أبنائها. انتهى