عاد الرئيس بفضل الله ورعايته، ولو قلت عاد الهمام، لما جانبت الصواب، ولما خالفني في هذا الوصف، كل منصف أمين، أجل، أليس من الهمة والإباء والصمود وبقطع النظر عن مآثر الرجل في الماضي والحاضر أن يتحدى مرضا خطيرا بشجاعة قل نظيرها، وأن ينتصر عليه بإرادة لا مثيل لها وأن يعود الى ممارسة مهامه بعزيمة أذهلت الصديق والعدو، ولا عجب، أنها عزة النفس ورفض الاستسلام الذي يصنع المعجزات، ورحم الله من قال ''عليك نفسك فاستكمل فضائلها.. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان«. نعم عاد لتحمل الأمانة التي أوكلها له الشعب، بحزم لا يلين وإصرار لا يقهر واتخذ قرارات إدارية وسياسية جريئة وحاسمة لم يكن يتوقعها الا القليل ممن يعرفون صلابة روح التحدي لديه، عاد بوتفليقة من رحلة الألم ولسان حاله يقول »سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالصقر فوق الصخرة الشماء« رجع الرئيس في حفظ الله فأسقط في يد خصومه وبهتوا كما بهت الذين من قبلهم، رجع فجفت الأقلام، أقلام أولئك المغرضين الحاقدين، الذين ما أن ألمّ به المرض، حتى راحوا يهللون ويطلقون العنان لأفئدتهم المريضة وألسنتهم المسمومة فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وصاروا يرسمون الخطط ويقترحون الحلول العقيمة لأزمة حكم لا وجود لها الا في مخيلاتهم المشوهة بفعل الحقد والضغينة والحسد، نعم رجع بوتفليقة سالما الى عرينه وهو يقول في قرارة نفسه »جزى الله الشدائد كل خير == فقد عرفتني عدوي من صديقي« عرفهم وقد كان يعرف أكثرهم سلفا ولكن دون أن يحمل أي حقد أو رغبة في الانتقام كما يدعي البعض، فكيف يحمل الحقد من تعلو به الرتب، وهل يرغب في الانتقام من تلا قوله تعالى: ''فمن عفا وأصفح فأجره على الله'' فهو ككل رجل عظيم ورجل شهم كريم مقتنع بأن العفو عند المقدرة من أنبل الشيم. أجل ولقد برهن على ذلك عندما صفح صفحا جميلا عمن آذوه أشد الأذى، وأساءوا اليه أشد الاساءة في الماضي، في سنوات الغربة والإبعاد والتهميش، لقد صفح عنهم غير مكره، بل وكرم بعضهم ممن لهم ماض ثوري يستحق التكريم. عاد الرجل الى سالف عهده كما قلت، وألمت بالكثير منهم وعكة تفوق وعكة الرئيس فأصيبوا بالبكم، وإن نطقوا فبألسنة معقودة لا تعي ما تقول، حيث أصبح موقفهم يدعو الى الشفقة، هم الذين لم يشفقوا على رئيسهم في محنته وابتلائه، إنهم قوم لا يعقلون حقا، كما ألحوا وبالغوا في الإلحاح لرؤية الرئيس عندما كان في المستشفى، ولم يقتنعوا بتصريحات الأطباء ولم يصدقوا - التطمينات المتكررة لرئيس الحكومة، لدرجة أنهم ذكروني بقوم موسى عليه السلام وهم يقولون له ''لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون'' وأمام إلحاح هؤلاء وتهويلهم وعويلهم ظهر الرئيس رغم تعبه الشديد آنذاك، فصعقوا عندما رأوه يشرب القهوة ويتحدث الى زواره، لم يصدقوا أعينهم وظنوا أنهم يحلمون، وكأنهم لا يعلمون بأن الأمور تجري بمقادير وأن الأعمار بيد الله، لن أعود الى تلك الترهات والأراجيف والتكهنات الخرقاء فقد سبق لي التعليق عليها، لكن أريد أن أشير فقط الى أن نعيقهم لم ينقطع الى اليوم الذي شاهدوا فيه الرئيس يستقبل ضيوفه أعني ''الغنوشي والسيسي'' اللذين جاءا لاستشارته في موضوع الأزمة التونسية، يومها هزم أصحابنا، وزلزلوا زلزالا شديدا، الرئيس يستقبل الأجانب، فهو اذا يتكلم ويفصح ولا يتمتم كما يدعون، الرئيس يناقش ويجادل كعادته، الرئيس يأمر وينهي ويغير الحكومة، ويعين ويقيل الضباط، وأخيرا وليس آخرا يرأس مجلس الوزراء. أجل زلزلوا وفقد الكثير منهم وعيهم وعندما أفاقوا لم يجدوا ما يقولون سوى أن الحكومة حكومة انتخابات بدليل أنه عين في الحقائب السيادية رجالا مقربين منه، ولكن، فهل كانوا ينتظرون منه أن يعين في مناصب حساسة أناسا لا يعرفهم ولا يعرف مدى كفاءتهم والتزامهم وإخلاصهم؟ إن هذا لعمري هو الخرف بعينه، ومع ذلك أقول لهؤلاء لو كانت دوافع التعديل اعتبارات انتخابية محضة لما استغنى عن خدمات رجل أخلص له في الماضي والحاضر ولا زال - حسب ظني - مستعد للإخلاص في المستقبل إن اقتضت الظروف، أعني ''ولد قابلية'' ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال عن ''تو عمار'' أو ''حراوبية'' مثلا، كل ما هناك أن هؤلاء الإخوة عمروا طويلا في مناصبهم حيث بذلوا جهدا لا ينكر، اضافة الى انشغالهم الكبير بأمور الحزب، فكان من الطبيعي ان يستخلفوا بوزراء جدد برهنوا عن كفاءتهم في أدائهم لمهامهم السابقة، ثم ألم يكن الجميع يطالب بضخ - سولو تدريجيا - دماء جديدة في مفاصل الدولة ودواليبها، أضف الى ذلك أن بقاء المسؤول لمدة طويلة في نفس المنصب يجعله عرضة لكثير من النقد، بل والتجريح أحيانا، وهذا مهما كان أداؤه ورغم ما بذل من جهد. لن أعود كما قلت الى ظروف مرض الرئيس وما حبك عنه من تخرصات وأحاديث ملفقة عن عجزه، وهم العاجزون، لن أطيل في الموضوع فقد قلت فيه وعنه ما يكفي، كما تحدث فيه غيري لاسيما الأخ الكريم والاستاذ القدير ''مقران آيت العربي'' وهو معارض، لكنه معارض شريف، أقول شريف لأن أكثرية من يدعون المعارضة اليوم معارضون مزيفون وسماسرة سياسة، كما سأوضح ذلك في بقية هذا الحديث، لقد كتب الأخ ''مقران'' مقالا أفحم كل المتشدقين بالدستور والماسكين ولا أقول المتمسكين بحبل المادة 88 من أحكامه لعلها تحقق لهم ما لم يستطيعوا تحقيقه بنضالهم المزعوم، وعليه، فكل التقدير والشكر للأستاذ ''مقران'' على أمانته العلمية وحياده، فقد أثبت لهم بما لا يدع مجالا للشك أن هذه المادة الدستورية غير قابلة للتطبيق في حالة الرئيس ''بوتفليقة'' الأكيد أن هؤلاء الناس يئسوا من القدرة على الوصول للسلطة، فضلوا الطريق وأصبحوا يدورون في حلقة مفرغة، يتحدثون عن التغيير ولا يحددون معناه ومحتواه وأساليبه، كما يتحدثون باسم الشعب، والشعب منهم براء بدليل النتائج المخزية التي حصلوا عليها في الانتخابات الأخيرة وما قبلها، ذلك لأن الشعب قد اكتشفهم وكشف سرائرهم وعرف مآربهم. فرغم القرارات الرئاسية الأخيرة التي أثبتت للذكي وحتى البليد، بأن الرئيس هو صاحب الشأن دون منازع، مازالوا يتحدثون عن أصحاب القرار وعن سلطة فعلية أخرى، عجيب والله أمر هؤلاء. فمادامت هناك حسب زعمهم - سلطة أخرى في البلاد، فلماذا اذا أصموا آذاننا بالكلام عن الفراغ السلطوي الذي أحدثه مرض الرئيس وغيابه؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لطالما طالبوا بإرساء حكم مدني بعيد عن تأثير وتدخل الجيش في الشؤون السياسية، ثم ها هم اليوم والكثير منهم على الأقل يدعونه - في مفارقة عجيبة - للتدخل في الحياة السياسية. الحقيقة أن كلهم يخطب ود القوات المسلحة إلا واحدا شذ عنهم في هذه المرة، أعني زعيم ''حزب العدالة والتنمية'' الذي أصبح يتحدث حديثا غير معهود، حيث بات ينادي بإبعاد الجيش عن أمور السياسة، في تقديري أن خرجته الناشزة هذه، تعود الى كونه أصبح يشعر بأنه انتهى سياسيا، مما جعله يبحث عن أي ذريعة أو عذر لتبرير فشله الذريع. سأعود للحديث عن جيشنا الشعبي العتيد، سليل جيش التحرير الوطني، خاصة وأني قضيت أولى سنوات عمري في صفوفه، لكن قبل هذا أود أن أقول لصاحبنا ''جاب الله'' بأنني عندما أقول بأنه انتهى، أوضح عن أية نهاية أتحدث، عكس ما فعله هو، عندما تكلم عن الرئيس على صفحات الشروق، حيث قال بنبرة المتيقن بأن بوتفليقة انتهى ووضع نقطة على السطر. فليسمح لي السيد ''جاب الله'' أن أذكره - وكان من المفروض أنه هو من يذكرني، لأنه الشيخ والفقيه، بأن الانسان لا ينتهي أبدا وبأن الموت ليست نهايته كما يعرف، وإنما هي مجرد انتقال من حال الى حال، من دار الفناء الى دار البقاء، ثم أن الانسان بعد رحيله من الدنيا يبقى حيا بالذكر، ان هو خلد اسمه بمواقف وأعمال تحفظها له الأجيال على مر الأيام، ورحم الله الشاعر الخالد أحمد شوقي اذ يقول: دقات قلب المرء قائلة له ** إن الزمان دقائق وثوان فاصنع لنفسك قبل موتك ذكرها ** فالذكر بعد الموت عمر ثان وعليه فبوتفليقة سواء استمر في قيادة الأمة أو سلم المشعل لغيره فقد خلد ذكره في تاريخ الجزائر الحديث، فبماذا سيذكرك الناس يا أخي عبد الله - مع احترامنا لمسارك - اذا استثنينا موقفا حسبناه موقفا شجاعا في يوم من الأيام، كان ذلك عقب توقيف الانتخابات، عندما أعلنت عن تشكيل جبهة - وما أكثر الجبهات - سميتها جبهة الدفاع عن اختيار الشعب، أجل لقد كان موقفا جريئا قدره الناس، لكن سرعان ما تخليت عنه وانخرطت في العملية السياسية التي تلت تلك الأحداث، حيث كان لك نواب وأميار فأين هو الثابت والوفاء والوعد؟ هذا بقطع النظر عن تقييمنا لما جرى وموقفنا مما حدث في تلك الفترة الحالكة مع الأسف، أعود للقول بأن ''جاب الله'' ''إنتهى سياسيا'' منذ الانتخابات النيابية الاخيرة وما اسفرت عنه من نتائج باهتة كي لا اقول مهينة بالنسبة لحزبه الأخير، أقول لحزبه الاخير لأنه سبق أن أسس احزابا أخرى تخلت عنه، وحتى لو قال بأنه هو من تخلى عنها فان ذلك مؤشر واضح على عجزه وعدم قدرته على تسيير وقيادة الرجال، لاشك أن استاذنا جاب الله قد تيقن من انهيار مصداقيته، ولهذا أصبح يقول بأنه عازف عن الترشح للرئاسيات المقبلة وينتحل لذلك أعذارا واهية لم تعد تقنع أحدا ممن يعرفون تقلباته. الأكيد أن الرجل أصيب بإحباط شديد وخيبة مريرة وإلا لما تجرأ - كما أسلفت - على الخوض في مسائل تتعلق بقواتنا المسلحة، وهنا أريد أن أذكره بأن الجيش الوطني الشعبي لم يتدخل يوما في أمور السياسة - وهو لها كاره - الا بدافع الحفاظ على تماسك الأمة واستقرار البلاد، وذلك كلما عجزت نخبتنا السياسية الفاشلة عن القيام بواجبها في ريادة وقيادة المجتمع، إن فشل زعيم حزب العدالة والتنمية هو بالتأكيد ما جعله ينتقل من السفسطة الى الديماغوجية ويقول كلاما أقرب الى الدجل والتخريف منه الى الكلام العقلاني الرصين، والا كيف نفسر حديثه عن ابتكاره لدستور خاص به، أن يقدم اقتراحات وأفكار قد تفيد الهيئة المخولة بصياغة الدستور - ولا أقول الدستور النهائي الذي سيخضع للمناقشة والإثراء على الأقل داخل البرلمان، فهذا مقبول ومستحب بل ومطلوب، لكن أن يصوغ دستورا كاملا ويعرضه على الناس فهذا لعمري بدعة ما بعدها بدعة سبقه أو لحق به اليها حزب آخر وهو بالمناسبة حزب يحمل مشروعا مناقضا تماما لمشروع ''جاب الله'' أقصد حزب ''الأرسيدي'' العلماني التغريبي الذي أصبح لا يتردد في تأييد بعض مواقف هذا الحزب المتطرف المأجور أعني ''الماك'' وزعيمه المتصهين الذي بلغ به ''الكفر'' بالوطن الى حد المطالبة بالحكم الذاتي لمنطقة القبائل الأبية، مع أن الأغلبية الساحقة من سكان القبائل الشرفاء، إن لم أقل كلهم، تبرأوا منه براءة الذئب من دم ''يوسف'' كيف لا وبلاد القبائل التي انجبت فطاحل العلماء في الشريعة واللغة العربية، كانت دائما - ورغم كل محاولات الاستعمار لسلخها عن أمتها - معقلا للثوار وحصنا حصينا للهوية الجزائرية أو ''الأنية والاصالة'' كما سماها وعرفها واعتز بها مفكر العروبة والإسلام، سليل جبال القبائل الشامخة، الأستاذ ''مولود قاسم'' رحمه الله وطيب ثراه. وهناك حزب ''اسلامي'' آخر أقصد ''حماس'' عودنا على الخرجات العجيبة الغريبة، كانت أبرزها تلك المقولة التي لم يسبقه اليها أحد في العالمين، أقصد مقولة : ''كنا في الحكومة ولم نكن في السلطة'' كلام لا يعقل وفيه اهانة لذكاء الجزائريين، هذا الحزب الذي فقد ظله منذ انتكاسة ''الربيع العربي'' أصبح يتحدث في الآونة الأخيرة عن ''حكومة ظل'' وهي بدعة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، نعرف أن بعض الشعوب المقاومة للاستعمار، شكلت حكومات مؤقتة اثناء الكفاح، كما هو الشأن بالنسبة للشعب الجزائري إبان الثورة، لكن لم نسمع أبدا عن حكومة ''ظل'' في بلدان حرة موحدة كاملة السيادة! أليس هذا قمة التخريف والتدجيل؟ في ظني أن هذا الحزب أو بالأحرى زعيمه الحالي فقد ''البوصلة'' واشتبهت عليه السبل ولم يجد ما يفعله سوى صياغة وثيقة سماها ''وثيقة الاصلاح الوطني'' وراح يعرضها على الاحزاب المعارضة، قاصيها ودانيها، اسلامييها وعلمانييها، قديمها وحديثها، وكان أول حزب يعرض عليه وثيقته هو حزب ''الأرسيدي'' التغريبي، عجيب والله أمر هؤلاء الإسلاميين!؟ لو توجه بها الى ''الافافاس'' لما استغرب أحد مسعاه، ذلك أن هذا الأخير رغم أنه حزب ديمقراطي ذو نزعة علمانية، إلا أنه لم يتنكر في يوم من الايام للثوابت الوطنية من اسلام وعربية وامازيغية بالطبع، كما أنه لم يشارك أبدا طيلة نصف قرن من مساره النضالي في أي نشاط من شأنه أن يزعزع وحدة الوطن والأمة، وأكبر دليل على ذلك هو موقفه الوطني الرائع أثناءالعدوان المغربي على حدودنا سنة .1963 يتبع