وحل.. وحل.. وحل، أتعبه الوحلُ من عتبة البيت على أطراف العاصمة إلى قلبها في شارع ديدوش مراد، الأحذية موحولة.. السراويل موحولة.. القلنسوات موحولة.. الحجابات موحولة، الحافلات موحولة.. السيارات موحولة.. الطرقات موحولة.. الأرصفة موحولة.. حليب الصباح موحول.. قهوة العشية موحولة.. وجبة العشاء موحولة.. وجبة الغداء موحولة.. المقاهي موحولة.. المطاعم موحولة.. المحلات التجارية موحولة.. المراحيض العمومية موحولة.. الابتسامات موحولة.. المكالمات الهاتفية موحولة.. نشرة الأخبار موحولة.. خطب الجمعة موحولة.. الجرائد موحولة.. طلات الوزراء موحولة.. الأحزاب موحولة.. استفزازات النواب موحولة.. المسلسلات التلفزيونية موحولة.. الأفلام الثورية الجديدة موحولة.. المحطات الإذاعية موحولة.. المعرض الدولي للكتاب موحول.. معرض التكنولوجيات الحديثة موحول.. مكاتب البريد موحولة.. أضحية العيد موحولة.. لجنة الحج موحولة.. الوكالات السياحية موحولة.. مشروع المسجد الأعظم موحول.. الجماعة المسلحة موحولة.. البريد التقليدي موحول.. البريد الاكتروني موحول.. الفايسبوك موحول.. المدارس موحولة.. المتوسطات موحولة.. الثانويات موحولة.. الجامعات موحولة.. المطارات موحولة.. المطاريات موحولة .. وحل.. وحل.. وحل، وحده الوحلُ يستحق ميدالية ذهبية أو وسامَ الأثيرحين كان صغيرا يخوض في أوحال القرية، كانت أمه تقول له: يا ولدي.. ادرسْ جيدا حتى تنتقل إلى المدينة فتتخلص من الوحل، غرق في كتبه الموحولة حتى ينتقل، وحين انتقل وجد الوحل سيدَ الأمكنة في المدينة أيضا، أصيب بالخيبة وراح يفكر في مكان لا وحل فيه، بعد مدة.. كتب في مذكراته: الفرق بين الوحل والحَلّ حرف واحد هو الواو، والواو كما قرأتُ في الأساطير التارقية مدينة ذهبية لا يمكن أن نعثر عليها إلا بعد أن نخوض في عطش الصحراء فنتطهر من وحل الأرض.. لذلك أقول لكم وداعا أيها الموحولون فإني راحل إلى الواو حيث أصير في حلّ من الوحل. باع كتبه ما عدا روايات إبراهيم الكوني، وممتلكاته الصغيرة حتى يضمن أجرة الطريق، وخاض في حافلة الصّحراء، ليس من عادته أن يقرأ أو يشاهد التلفاز وهو على سفر لأن دورانا يستعمر رأسه بذلك، فكيف بهذه المرة التي يسكنه الدوران أصلا، لكنه لم ينتبه إلى أنه شاهد الفيلم دون شعور بالدوران إلا بعد أن طلع جنيريك النهاية: يتعرض كوكب الأرض إلى أشعة شمسية حارقة قتلت كل من على الأرض من أحياء ما عدا كمشة من البشر كانوا في معزل عنها، من بينهم شاب يملك كتابا تنبأ بهذا المصير ويعرض حلولا تعيد الحياة للكوكب الأزرق المحروق، يسمع بالكتاب رجل راوده طموح في أن يستولي على الكوكب من خلال إحراز الكتاب فيدخل في رحلة مطاردة لصاحبه، إنسان يطمح لأن يعيد الحياة للكوكب وينشر فيه الخير، وإنسان يطمح لأن يستولي عليه فيزرع فيه قيم الشر والأنانية، وتستمر المطاردة ثلاثا وثلاثين سنة.. في نهاية الفيلم حيث انتصر الخير على الشر قالت رفيقة الشاب صاحب الكتاب العجيب: كيف استطعت أن تعرف الطريق الصواب من الطريق الخطأ طيلة ثلث القرن ولم تلتبس عليك الطرق؟ قال الشاب: عندما نؤمن بالطريق ولا نخونه بالتشكيك فيه يصبح الطريقُ نفسُه دليلَنا إليه. زاد إيمانه بطريقه إلى مدينة واو الذهبية، توقفت الحافلة في محطة بأعماق الصحراء للأكل والراحة فاستغل الفرصة وخاض في الخلاء، انتابه إحساس بأنه بات حرا من سلطة الوحل، كيف لم يتفطن من قبل إلى هذا وقد أفنى سنواته الأخيرة في البحث عن الخلاص؟ ثم عزى نفسه بأن الخلاص يأتي دوما بعد استهلاك كل الفرص الممكنة، صاح من أعماقه في الخلاء: واو.. أيتها المدينة الذهبية الخالية من الوحل.. أنا قادم.. وسأعطش بما يكفي لأتطهر حتى أدخلك.. فلا تخيبيني أيتها الفضاء الحلم، اكتشف أنه يملك أعماقا تصرخ لكنها كانت مكبوتة، ثم انتبه إلى أنه شكك في واو الذهبية حين طلب منها ألا تخيبه متذكرا عبارة الفيلم: عندما نؤمن بالطريق ولا نخونه بالتشكيك فيه يصبح الطريق نفسه هو دليلنا عليه، صاح: عذرا يا واو الحلم، لا خيبة وأنا قادم إليك، الخيبة تسكن في الخلف وقد خلفتها ورائي، ضحك من أعماقه وقد رأى الحافلة تبدو له كنملة من بعيد، قال تستحقون حياة النمل أيها الموحولون من القلنسوات إلى الأحذية، وخاض في الخلاء.. خاض فيه العطشُ.. لأول مرة يستمتع بعطشه، وكان منسوب متعته يزداد بازدياد منسوب العطش، قارن بين عطش الشمال وعطش الجنوب فوجد الفرق شاسعا شساعة الفرق بين الجزائر العاصمة وواو الذهبية التي عليه أن يبلغها حتى يقف فعلا على حقيقتها.. أغمي عليه فراح يتدحرج من أعلى الكثبان إلى أسفله، هل للكثبان أسفل؟ أصحته قطرات ماء صبها عليه شاب ملتح وعليه لباس أفغاني، فتح عينيه فسمع عبارة: فرع الصحراء للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، هناك علم أنه هرب من الوحل الأصغر فوقع في الوحل الأكبر .