أثار كتاب الرئيس التونسي السيد المنصف المرزوقي الذي اختار له عنوان (الكتاب الأسود لمنظومة الدعاية لنظام بن علي) زوبعة إعلامية وفكرية وسياسية أطاحت في لحظات قليلة بصرح الأكاذيب والدعاية الذي شيده العديد من الإعلاميين والسياسيين والمثقفين والرياضيين والشعراء ورجال القانون لتلميع صورة نظام الرئيس التونسي السابق زين العادين بن علي مقابل عمولات ورشاوى كانوا يتقاضونها من أموال الشعب التونسي، معتقدين أن جرائمهم الأخلاقية ستظل مستورة وأسرارهم مدفونة، وتجاهلوا قول الشاعر العربي: »ومهما تكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم« لقد جاء هذا الكتاب التوثيقي ليكشف أن منظومة الفساد هي شبكة تتقاطع فيها مؤامرات المستبدين من النخب الحاكمة مع تواطؤات المرتشين من المثقفين والصحافيين والفنانين والقضاة والمحامين المفترض فيهم صناعة الوعي وحماية القيم الايجابية في المجتمع. وإذا كان الفساد يؤدي الى تقويض المؤسسات الديمقراطية وعرقلة جهود التنمية الاقتصادية وتغطية الفشل والاضطراب الحكومي، فإن حجم ونوعية المتورطين في الفساد يفسر تعثر الجهود المبذولة للتصدي للفساد ومكافحته في أغلب الدول العربية التي تتصدر عادة قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم في تقارير منظمة الشفافية الدولية. كان من اللافت للانتباه أن تكون الفئة الأكثر رفضا واستهجانا ومعارضة لكتاب السيد المنصف المرزوقي هي فئة رجال الإعلام والصحافيين، فقد اعتبرت نقابة الصحافيين التونسيين الكتاب بمثابة »تصفية حساب شخصي للرئيس المرزوقي مع الصحافيين«، أما رئيس المنظمة التونسية لحماية الصحافيين فقد وصف ما قام به الرئيس المرزوقي بأنه »عمل دنيء.. ومحاولة لتركيع السلطة الرابعة«، ولكن لا أحد يصدق أن شخصا في موقع السيد المرزوقي ومكانته وتاريخه النضالي في المعارضة التونسية وكفاحه من أجل حقوق الإنسان، يسقط في لعبة تصفية الحسابات مع الصحافيين ويتقمص شخصية الديكتاتوريين المهوسين بإخضاع الصحافة وإسكات الأصوات المعارضة. لقد ظلت الصحافة والاعلام في تونس تلوك صباحا ومساء سمعة الرئيس المنصف المرزوقي منذ اختياره قبل عامين لتولي منصب الرئيس المؤقت بعد الانتخابات التي أعقبت هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ورغم أن الرئيس المرزوقي تحول الى موضوع للسلخ الإعلامي وعرضته لسهام الإهانة والتندر، فإنه لم يقدم على غلق وسيلة إعلامية أو سجن صحافي تونسي على الإطلاق، ولذلك من المستبعد أن يخترع السيد المرزوقي أسماء حوالي 500 صحافي من التونسيين والعرب والأجانب وعشرات عناوين الوسائل الاعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية لكي يشهر بها في كتاب صادر عن مؤسسة الرئاسة التونسية! لقد تراوحت أسماء المذكورين في ''الكتاب الأسود'' بين صحافيين ومعلقين ومحققين ورؤساء تحرير ومدراء وسائل إعلامية، وتنوعت مهامهم بين تلميع صورة نظام بن علي وشتم المعارضة التونسية وتشويه سمعتها في داخل تونس وخارجها وحتى كتابة تقارير ضد صحافيين وسياسيين معارضين. ويعتقد الصحافيون والسياسيون الذين شنوا ومازالوا يشنون حملات التشكيك والتشويه والتجريح على الرئيس المرزوقي وكتابه الوثائقي أن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم وهناك من طالب بمحاكمة الرئيس المرزوقي بسبب تصرفه في الأرشيف، وهناك من اعترض على توقيت صدور الكتاب في ظرف الأزمة التي تمر بها تونس واحتدام الخلافات بين القوى السياسية المتصارعة، ولكن الناطق باسم الرئاسة التونسية أكد أن الذين لم يرق لهم الكتاب وذُكرت أسماؤهم ما عليهم إلا أن يتوجهوا للقضاء، وكشف أن الرئاسة قدمت الأرشيف الخاص بالإعلاميين الفاسدين للمجلس التأسيسي التونسي وهيئة مكافحة الفساد ولكن هذه الهيئات لم تحرك ساكنا. والغريب أن الجهات التي تطالب عادة بالحق في الإعلام وحرية الرأي وقدسية الحقيقة هي التي تقيم الدنيا ولا تقعدها بسبب صدور الكتاب الأسود، ولعل من أسخف ما قيل بأنه كان على الرئيس المرزوقي أن لايبذل جهده في إصدار هذا الكتاب وأن يهتم فقط بشؤون بيته الرئاسي، وتناسى الفاسدون ممن فضحهم الكتاب الأسود أن من كان بيته من زجاج فعليه ألا يقذف الآخرين بحجر. وأن الحق فوق الجميع وطلبه فريضة والصدح به واجب على كل عاقل.