عدت من العمل، فوجدت أمي في المطبخ... هي العاطلة التي بالكاد تنتقل من غرفة إلى غرفة، صحت: ولكن لماذا؟ بالزاف عليك. نهرتني بالعصا التي جلبتها لها من تونس مؤخرا: أحكم بلاصتك. بعد أقل من ساعة: كم محجوبة أكلت يا ربي؟ صنعت المحاجب بيديها، وكانت لذيذة حد البكاء. كنت أسترق النظر إليها، وهي تعد أكلتها.. أكلتي.. أكلتنا، فلاحظت نشوة في عينيها لا توصف، وقد عادت إلى المطبخ الذي لم تدخله منذ جويلية .2008 قلت لها مازحا: ما أشبهك بالرئيس بوتفليقة، كلاكما يرفض أن يترك المطبخ رغم المرض، وفي هذا خطر على صحتكما وعلى المطبخ معا، فلكزتني بالعصا التي كانت موضوعة قرب القصعة، واصلتُ: وأنتما تتشابهان في استعمال العصا أيضا ضد من ينتقدكما، فها أنت ترفعينها في وجهي، لأنني طالبتك بالراحة، تماما مثلما رفعها هو فى وجوه الذين احتجوا على ترشحه للعهدة الرابعة. لم أكن أتوقع أن الضربة ستكون مؤلمة هذه المرة: أحكم بلاصتك. أبادر إلى الاعتراف بأني أغار من السيد بوتفليقة، لا لأنه يرأس أكبر دولة إفريقية ومغاربية وعربية، فأنا لم أحلم يوما بأن أكون مديرا أو سفيرا أو وزيرا خليكم يا رئيس، كل أحلامي وطموحاتي إبداعية، ولم يحدث أن خنتها يوما، ولا أراني فاعلا، أو لأنه يستطيع أن يعالج في أرقى المستشفيات الباريسية، بينما أعالج أنا في المستشفيات العمومية الجزائرية، ولا أراكم بحاجة إلى أن أحدثكم عن مآسي أن يعالج أحد من خلق الله في المستشفى العمومي الجزائري، أو لأنه يملك سيارتين وشقة، حسب تصريحه الشرفي الأخير بأملاكه، بينما أستعمل أنا القطار ودار الكراء، أو لأنه يملك شقيقا مستعدا لأن يفتت الأرض وينسف السماء من أجله، بينما أعيش وحيدا في العاصمة بلا أخ ولا ولد عم. أنا أغار منه لأنه يقاسمني قلب أمي. لا أذكر أن أمي تركت منذ مجيء السيد بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 أن تدعو له عقب كل صلاة، وكانت ولا زالت تقول لي إنها تشم فيه رائحة بومدين والرجال الفحولة، ولا تملك استعدادا لأن تسمع مني ما يخرج عن مدح الرجل، والإشادة بإنجازاته، وقد أسمعتني وسخ أذني ليلة رأتني في قناة الجزائرية أجيب الزميلة نسيمة غولي، وهي تسألني عن موقفي من مظاهر الاحتجاج على العهدة الرابعة، بأني أساند هذه الاحتجاجات السلمية، وبأن الجزائر تستحق أن تذهب إلى مستقبل جميل وجديد. حاولت أن أشرح لها موقفي، وموقف من يرفض العهدة الرابعة، وكيف أنه نابع من خوفنا على مستقبل البلاد، لأن الرجل مريض، ولا يستطيع أن يدير زمام الأمور، وأنه أخذ من الوقت ما يكفي لأن يبني قارة بأكملها لا دولة واحدة فقط، فلم تسمعني.. وراحت تربط رفضي لترشح السيد بوتفليقة بعقوقي لها. هناك قررت ألا يصلها شيئ من مواقفي السياسية حتى لا يتعكر مزاجها، فهي لا تستطيع أن تقرأ ما أكتب، وليس في البيت من ينقل لها ما أكتب، وقد وصلني أن إحدى جاراتي تنقل أحيانا ما أكتب في الفايسبوك، فسارعت إلى حذفها بمتعة لئيمة. كم جزائريا يشبه أمي في تعصبها للرجل؟ وكم جزائريا يشبهني في رفض ترشحه لعهدة رابعة؟ لن أغامر فأقترح إجابة ما، لصالح طرف ما، لأن الأمر يحتاج إلى سبر آراء دقيق، وهذا غير متاح في المشهد الجزائري، بعد خمسين سنة من الاستقلال، لأن الدقة والنزاهة في سبر الآراء ثمرتان للممارسة الديمقراطية الحقيقية، غير أن الخطير في الأمر أن التعصب للرئيس بات يتم التعاطي معه على أساس أنه دليل على الروح الوطنية الصادقة، بينما يدل رفض ترشحه على الخيانة لهذه الروح، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: لنفرض أن الحرص على بقاء الرئيس نابع من خوف الحريصين على البلاد، بالنظر إلى عدة معطيات موضوعية، فلماذا لا يتم التعاطي مع رفض الرافضين على أنه خوف على البلاد أيضا؟ لماذا ينسب تحركهم إلى أياد أجنبية، لا إلى قناعاتهم الوطنية؟ لقد دفعنا ثمنا باهضا لاحتكار الوطن باسم الشرعية التاريخية، وها نحن ندخل مرحلة أخرى هي مرحلة احتكار الوطنية، فأي ثمن سندفع يا ترى؟ إذا كان الثمن في الأولى هو آلاف المواطنين، على اختلاف الوجهات التي فقدناهم فيها، فسيكون الثمن في الثانية هو الوطن نفسه، وهذا ما يرفضه الجزائري قطعا، من غير اللجوء إلى سبر آراء، لكن المرفوض أيضا، هو الاستغلال اللئيم لخوف الجزائري على وطنه، في الإبقاء على هذا الوضع البائس، وتعزيز وجوهه، وما العهدة الرابعة إلا وجه من وجوه هذا الاستغلال.