بما أننا أمة الكلام، وجدتني أهرب من نفسي إلى ذلك الكلام الجميل الذي تغنت به الفنانة الرائعة جوليا بطرس، وهي تستنجد وتستغيث ز وين الملايينس وتصرخ في وجه هذا العالم الظالم: ''ضاعت شمس الحق''، ومن هناك يأتيني صوت الشاعر الكبير نزار قباني، يلعن عجز الأمة التي استسلمت وتخاذلت وتواطأت ضد الأخ الشقيق الذي، يعاني من العدوان والإبادة والحرق والتدمير، وها هو نزار يستجدي التاريخ، لعله يستعيد عنفوان الأمة، فيبحث في دفاتر التاريخ عن عقبة، عن عمر، عن حمزة، عن خالد، عن رجال آخر الزمان، لكنه لا يجد إلا'' قططا مذعورة تخشى على أرواحها من سلطة الفئران''. وتأبى تلك الأغنية التي صدحت بها الفنانتان أمل عرفة وسوسن حمام إلا أن تضخ في دمائنا الباردة والميتة تلك الشحنة من ''غضب الشعب'' على الصمت المخزي والتخاذل والتواطؤ والانقسام والاحتراب العربي، ذلك الغضب الذي تنطق به الصدور والقلوب الذي، يؤكد أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجود، يقتضي دعم صمود الشعب الفلسطيني وبطولات مقاومته وتضحيات أطفاله ونسائه. لقد قيل: '' الكلام أقوى من السيف''، لذلك وجدتني أحتمي بكلمات ليست كالكلمات، نطق بها جهرا ذلك المسؤول الفرنسي الشريف والتي، دعا فيها فرنسا إلى '' الإنصاف والمجاهرة بحقيقة المجازر التي ترتكبها إسرائيل والإقرار بأن الإرهاب الموجود في فلسطين هو الإرهاب المنظم الذي تمارسه إسرائيل''. رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومينيك دوفيلبان، المحامي والشاعر المثقف، لم يلتزم الصمت الذي، نراه في عالمنا العربي، حيث يسود ''صمت القبور''، بل يقول: '' إن من واجب فرنسا أن ترفع صوتها في وجه المجازر المرتكبة في غزة''، دعوة يطلقها دوفيلبان، معتبرا إياها » صحوة ضمير«. وما أحوجنا إلى تلك الصحوة في عالمنا العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، إذ لن نستطيع أن نساند إخوتنا المقاومين والمنتفضين في فلسطين، إذا بقينا ننكأ جراحنا الأليمة، ونلعق دماءها الفاسدة، بل إذا لم نعلي شأن المصالحة الوطنية فيما بيننا، فلسطينيين وعربا، لنخرج أوطاننا من جراحها ونتوجه أصحاء معافين باتجاه الجرح الأكبر في فلسطين. دوفيلبان يتحدث بصراحة على أن الوعي المشوه وعدم فهم المصالح الحقيقية والخضوع لقانون الأقوى هو ما سيخنق صوت فرنسا، متسائلا:'' أي منطق ذلك الذي يفسر دعوة فرنسا إلى ضبط النفس بينما يقتل الأطفال عمدا، كيف نفهم موقف فرنسا الرافض لإجراء تحقيق دولي حول جرائم الحرب المرتكبة من الطرفين. كيف نفهم الموقف الفرنسي الذي كان أول المعبرين عنه رئيس الجمهورية والذي أيد دون تحفظ سياسة إسرائيل في الحفاظ على أمنها''. يتعجب دوفيلبان قائلا:'' أي مأزق ذاك الذي وضعت فيه فرنسا نفسها بانحيازها ودعمها لسياسة اللجوء إلى القوة، يجب علينا التحلي بالشجاعة لنقول حقيقة أولية، وهي أنه لا يوجد في القانون الدولي حق بالأمان في مقابل حق بالاحتلال ناهيك عن حق بارتكاب مجازر، فالأمان الذي تبحث عنه إسرائيل اليوم تريد تحقيقه على حساب السلام وعلى حساب الشعب الفلسطيني. وفي سبيل الحصول على هذا الأمان تلجأ إسرائيل للقوة وهو ما يعني حروبا أبدية. السياسة الإسرائيلية تقود إلى عمليات عسكرية شبه دورية في غزة والضفة وهي سياسة مرعبة لأنها لا تترك إلا المعاناة والألم والتخلف للشعب الفلسطيني، سياسة مرعبة لأنها تحول إسرائيل رويدا رويدا لدولة عنصرية سلطوية معسكرة''. تلك هي الحقيقة يجهر بها ذلك الفرنسي الشريف، وقد كان الأجدر أن نسمعها من ذوي القربى، أولئك الذين يفترض فيهم أنهم إخوة، حيث نجدهم يجاهرون بما هو عار. إن السؤال الذي تواجهه الشعوب في كل دولة عربية: ماذا يمكن أن نفعل من أجل القدسوغزة وكل فلسطين؟ في كل بلد عربي، يبدو المشهد الفلسطيني طاغيا، كل الأبصار مشدودة إلى الأقصى والقدسوغزةوفلسطين. لكن العرب، كل العرب، منشغلون بالاقتتال الجاري في أوطانهم، فس الربيع العربيس أو الخريف الدامي قد جعل كل دولة عربية تنكفئ على نفسها، تدفع الثمن من دم أبنائها. غزة الشهيدة تدعونا إلى التعالي فوق الجراح فيما بيننا لكي نتفرغ لمعالجة الجرح الأكبر، فلسطين، قضيتنا الخالدة التي، قد لا نستطيع أن نفعل الكثير من أجلها، لنا أن نتظاهر وأن نضغط على أنظمتنا لكي تخرج من حال العجز والتخاذل والتواطؤ، لنا أن نكتب وأن نخطب ونحرّض، لكن ما هو مطلوب وحاسم فعلاً هو'' صحوة ضمير'' كتلك التي دعا إليها دومينيك دوفيلبان، تلك الصرخة الغاضبة التي وضعت الأصبع على الجرح، '' نعم هناك إرهاب في فلسطين والضفة الغربية، إرهاب منظم ومنهجي يقوم به الجيش الإسرائيلي، لا أستطيع بأي حال سماع من يجادل ويقول إن ما يحدث في فلسطين ليس الأسوأ على الأرض والعالم، لا أستطيع قبول إدانة شعب بأكمله بسبب عيشه في خوف من القصف المستمر وتذمره من شرب المياه العطنة طوال الوقت وبؤس الحصار الدائمس. فصبرا غزة الشهيدة، صبرا أيتها القرى والبلدات المجاهدة، صبرا أيها الأبطال الميامين، يا من تدونون بالدماء الزكية والتضحيات الجليلة صفحات مجيدة في مقاومة الأعداء الغزاة. عذرا أهلنا الصامدين الصابرين في غزة، إن وجدنا في بوليفيا ودوفيلبان، وقبل ذلك في شافيز ما يشفي الغليل! فقد أبدوا مواقف مشرفة، فقد كانوا أكثر غيرة على غزة من حكام العرب والمسلمين وأكثر شعورا بآلام الفلسطينين من بني جلدتهم وممن قيل إنهم إخوة. عذرا، أيها الأحبة، فلم تبق لنا إلا الكلمات وآيات الإعجاب والتقدير لكم. سلام عليك، غزة العزة، سلام على شهدائك، على رجالك ونسائك وأطفالك يوم يبعثون. سلام عليكم يا من تعيدون إلى الذاكرة صورة العربي المقاتل الكريم بعطاء الدم. وتبا لمن باعوا الذمم وتاجروا بالشرف، إنهم في غنى عن الأرض والعرض. أحلى الكلام أبحث في دفاتر التاريخ عن عقبة بن نافع عن عمر عن حمزة، عن خالد يزحف نحو الشام، أبحث عن معتصم بالله أبحث عن رجال آخر الزمان فلا أرى إلا قططا مذعورة تخشى على أرواحها من سلطة الفئران. - نزار قباني أول الكلام ''غزة شمعة تلعن الظلام''