كانوا ثلاثة، من أعماق متقاربة، وهم اليوم في ضمير الغيب احترقوا في أتون الثورة، وبعد استقلال الجزائر، انبعثوا كما ينبعث طائر الفينيق من رماده، فحلقوا في الأجواء العالية، أجواء النهضة والبناء. اثنان منهما جاهدا في أرض الجزائر جهاد المخلصين الأوفياء، أما الثالث ففي عقر دار الاستعمار الفرنسي، أي في باريس. ما خطرت صورهما ببالي إلا وكانت مشفوعة بالقول الفرنسي المأثور: الرصاصة التي تنطلق يستحيل عليها أن تعود إلى الفوهة. وبالفعل، كان ثالثهما يردد هذه القولة كلما استذكر والده الشهيد الذي أحرقه الاستعمار الفرنسي في مكان من بلاد القبائل. إذ ما أكثر ما ردد والده عليه وعلى بقية إخوته في مطالع الخمسينات من القرن المنصرم: * لقد صرتم حاجزا بيني وبين ما أريد القيام به في هذه الدنيا. كنت ممثل الرصاص التي تنطلق وتصيب الهدف. أتسلل إلى أي مكان أريده بالغا ما بلغت شدة الخطر على حياتي وكان هو يعيش على منوال والده في النضال إلى أن أصيب بجروح بليغة في باريس وألقي به في غياهب السجن لكي لا يخرج من تلك الظلمات الحالكة إلا حين أهلت تباشير النصر وكان ثاني أولئك الثلاثة من نفس الجبلة والطراز. يقول عنه رفاقه القدامى في الكفاح: * عندما يدخل حيا من الأحياء يتبول )عذرا أيها القارئ الكريم( رجال الشرطة والدرك في سراويلهم! كلماته من نار، وأكاد أقول عنها إنها كانت موزونة، مقفاة، كلما جرى بنا الحديث عن أوضاع العالم العربي، وفلسطين بالذات. وانتقل إلى رحمة الله وهو في قمة الغبن، ذلك أن وزيرا جزائريا أسند إليه عملا بلا عمل إن صح التعبير. شعر بالذل والهوان، إذ كيف يقبل بأجرة لا يستحقها ولا يؤدي عملا مقابلها؟ وعاش أيامه الأخيرة حزينا مكدودا. أما أولهما، فما زال زملاؤه في النضال يذكرون وقفته في أحد أحياء العاصمة. دخل في عراك بالأيدي مع رجال السفاح زبيجاردس، قائد المظليين، فأردوه أرضا، وجعلوا يهددونه بالقتل، فما عتم أن تمالك نفسه وقام من مكانه، وصاح فيهم وهو يفتح أزرار قميصه قائلا: - إذا كان فيكم شيء من رجولة فأفرغوا رشاشاتكم في جسدي! وحوكم، ثم ألقي به في محتشد ''البرواقية'' إلى غاية الاستقلال. هذا الصنف من الرجال نفتقده اليوم. وما أكثر ما أقول بيني وبين نفسي: إنهم يمثلون العجينة الحقيقية التي يمكن أن نقولبها في أشكال روائية وقصصية وسيناريوهات! نحن في وقت نشكو فيه من عدم وجود الكتابات القصصية التي يمكن أن تحول إلى السينما، في حين أن المادة موجودة في كل مكان. يكفينا أن ننظر في ما حوالينا، وفي تاريخنا القريب والبعيد لكي نصوغ أفلاما لا تقل قيمة عن أفلام هوليوود. ولكن، يبدو أننا استمرأنا حالة الغيبوبة التي نزداد غرقا فيها كل يوم. إنني أترحم الآن على أولئك الزملاء المجاهدين الذين عملت معهم بعد الاستقلال، وتعلمت الكثير منهم في المجال الأخلافي وفي ما تعنيه الرجولة حقا وصدقا.