هل بدأ الجحيم العربي في العد التنازلي، وشرعنا في التهاوي نحو أعماق النار قبل التلاشي النهائي؟ لا تغادرني المقولة التي حفظتها في وقت مبكر: من يفقد الحلم، يفقد الحياة. في طفولتي، مثل أبناء جيلي، كنت أحلم بوطن يحميني ويحبني، وأمنحه كل ما أملك من طاقة وعنفوان، مثلما فعل والدي، وأكثر من مليون من أمثاله، في الثورة التحريرية إلى حد الإستشهاد، لدرجة أنه ترك وراءه أرملة وستة أبناء صغار. بعد الإستقلال، صدقت كما صدق غيري بأن الجزائر ستكون اليابان الصغيرة. وكنا نظن بسذاجة طفولية أن الأوطان الكبيرة تبنى بالخطاب. على الرغم من ذلك، الحلم ظل قائما وشرعيا وحقيقيا بالنظر إلى الطاقات التي كانت تملكها الجزائر، وتأميم خيرات البلاد ومنها النفط والمعادن. في مصر قبل هزيمة 1967 كان الحلم في أقاصيه. فحلم نشوء مشروع قومي كبير، كان يوتوبيا حقيقية أيضا، ومصدر فخر لكل عربي بالخصوص أن ذلك كله جاء مصحوبا بالمنشآت الكبرى التي تحققت في مصر كالسد العالي وتأميم قناة السويس والعمل على تطوير وتحرير الطاقات الشعبية من أثقال التخلف والأمية والجهل. البشر ووضعهم هم الخزان الحقيقي لأي تطور أو تخلف أيضا.و لم تكن بغداد ودمشق أقل من هذا. النواة العربية للتطور والمانحة للحلم لأكثر من 300 مليون عربي، كانت متوفرة، وهي ما أعطى للحلم العربي كل مشروعيته. حتى قضية فلسطين التي نشأت على تربتها وفي المنافي المنظمات العسكرية والسياسية، كانت حاملة لمشروع تحرري كبير ولحلم لا يموت، كنا نرى، نحن الحالمون، تجليه في الأفق واضحا. كانت اليوتوبيا العربية حالة حقيقية لها ما يبررها في الجوهر على الأقل. وكان المشروع الحداثي في تجلياته الأولية، حقيقة قبل أن ينهار كل شيء بالتدرج لنعيش في جزائر التسعينيات، انهيارا كليا للحداثة ونكتشف فجأة أن الغطاء الذي ظل يغلف الوضع لم يعد قادرا على فعل ذلك. فوضعت العشرية السوداء حدّا لكل حلم وعوّضته ببدائية غير مشهودة كان أبطالها نظام متهالك، متمسك بالسلطة حد القتل، وجماعات إسلامية مسلحة لا يربطها بالوطن إلا الحرق والإبادة والقتل الجماعي اليومي، وعدمية عدوها الأساسي عناصر التحديث الكبرى التي بدونها لا حداثة أبدا: المرأة. الحرية المستقبل. بينما سادت في العراق حالة شبيهة بشغور الدولة بعد التدمير المنظم لها من طرف أمريكا التي فتحت عصر الحروب الجديدة بعد أن قنّنت التدخل العلني في شؤون البلدان الداخلية. وعاد العراق إلى بدائية لم يتصورها حتى كبار المحللين السياسيين، في وقت ظلت فيه التحليلات العربية تقليدية وهرمة، مثلما كان يفعل المرحوم الجنرال الشاذلي في حرب الخليج الأولى إذ ظل ينتظر الحرب البرية الحاسمة مثله مثل الملايين من العرب، ومقاومة مدينة بغداد التي ستتحول إلى مقبرة للمعتدين. طبعا، لم تُمنح بغداد هذا الشرف. ونسي الإستراتيجيون العسكريون العرب، أن نظام الحروب قد تغير نهائيا. وأن الذي يحسم الأمر في النهاية ليست كثافة الدبابات وعدد الجند، لكن الحماية الجوية بكل وسائلها المتطورة من أقمار صناعية وشبكات الإتصالات وغيرها. وانتهى حلم عراق كبير يشكل نموذجا حيا للعرب. وأصبحت سوريا اليوم لا تشكل أية قوة بعد حرب أهلية طاحنة أتت على الأخضر واليابس، وعلى كل النسيج الاجتماعي التاريخي. وأصبح عرضة للتلاشي النهائي. بينما الحلم الليبي تبخر بعد تحول البلاد إلى مرتع للصراعات القبلية والدينية الطاحنة. ويتبدل الخطاب جذريا ويصبح الحديث الطاغي عن رعب جديد هو الوليد الشرعي لإخفاقات الحداثة في العالم العربي، اسمه» داعش»، آلة الإبادة العمياء والقتل الهمجي، والتدمير الذي يعكس في عمقه مرضا دفينا لم يأتنا من الخارج ولكنه ترعرع بين ظهرانينا في نقطة التلاقي بين حداثة حالمة وتأويل ديني جاف من أية حياة. لهذا أصبح التفاؤل بعيدا، وفي كل سنة تزداد مسافات الاتساع بيننا وبينه. كل ما نلمسه ونراه عن قرب يدعو إلى اليأس. طبعا لا يختلف إثنان حول أن المشكلة التي نعاني منها في العالم العربي هي التخلف، ولكن أكثر من ذلك، الشلل وفقدان شهية الحلم. فقد كانت سابقا التنمية هاجسا ورهانا عربيين حتى لدى الحكام أنفسهم. اليوم كل شيء انطفأ نهائيا. لم نعد نحلم، أي أننا بدأنا نموت. اليأس والخيبات المتكررة هو ما جعل الموت مجانيا وعاديا. العرب في حالة ضعف كلي وخوف غير مسبوق. لا يعرفون حتى حماية أنفسهم ويحتاجون إلى قوة خارجية تحميهم اعتبروها إلى وقت قريب، عدوة أساسية. لا يملكون أية رؤية جماعية تنقذهم من» داعش»، ذلك الجهاز المخابراتي المفبرك الذي مُنِح وظيفة تجفيف الأمل، وتفكيك التاريخ لكل منجز إنساني وعربي. ماذا لو اجتمعت الجيوش العربية التي لم تطلق رصاصة واحدة منذ هزائمها الكبيرة، ودافعت عن وجودها، لأن هذا الوجود أصبح مهددا. المشكل الأكبر هو أنّ العرب لم يعودوا سادة حلمهم، أي ليسوا سادة مصائرهم القادمة.» داعش» ليست إلا الوحش الطارئ الذي سيفنيه خالقه عندما تنتهي وظيفته الأساسية: نسف الدولة، تفكيك النسيج التاريخي، توفير مظلة للإستعمار الجديد. أتساءل أحيانا إلى ماذا يحتاج العرب اليوم، لكي يوقَظ الحلم فيهم؟ لا شيء. فقط الإقتناع بأن مصائرهم مشتركة، وبأنهم قادرون على التنظيم المشترك، ولو من باب براغماتي، لحل معضلاتهم الحيوية. وهذا ممكن جدا، مهما كانت الخلافات العميقة متأصلة بين الجميع، فالمصير الذي ينتظرهم لن يفلت منه أحد؟ لا أعتقد أن الضمير الجمعي العربي يقبل بهذه الأقدار القاتلة. فالعرب يملكون، في المطلق على الأقل، كل الطاقات الحيوية للاستمرار والتطور، ينقصهم اختيار مسلك موصل، لا إلى الحائط الإسمنتي البارد، ولكن إلى حلم ممكن التحقّق.