الثورة الجزائرية امتد أثرها إلى البلد المحتل نفسه، وكل القرائن تؤكد أنه لا يوجد بلد في العالم تأثر بأحداث وقعت في بلد آخر، حتى ولو كان يحتله، كما تأثرت فرنسا بأحداث الثورة الجزائرية. التأثير لازال مستمرا إلى اليوم. "ساندروم" ما يسمونه بحرب الجزائر لازال باديا للعيان خاصة في مجالات البحث والدراسات التاريخية. تقول الإحصائيات أن فرنسا أصدرت لحد اليوم أكثر من أربعه آلاف (4000) كتاب عن "حرب الجزائر"، وهو العدد الذي لم يصدر، حسب تقديري، ولو نصفه في الجزائر، ولا أعتقد أنه يوجد بلد في العالم أهتم بأحداث وقعت في بلد آخر كما اهتمت فرنسا بالأحداث التي وقعت خلال الثورة الجزائرية. إنه الدليل القاطع على الأثر العميق التي تركته هذه الثورة في الجسم الفرنسي. في كل الكتب التي ألفت عن الثورة الجزائريةبفرنسا، وكذلك في الآلاف من المقالات التي نشرت حولها، منذ 1954، سواء تلك التي ألفت من طرف حاملي الفكر الاستعماري والمتحمسين له أو ما كان من إنتاج أصدقاء الثورة الجزائرية من الفرنسيين، خاصة اليساريين منهم، في كل هذا لعلنا لا نعثر، ولا مرة واحدة، على عبارة "الثورة الجزائرية"، بل يوجد إصرار مقصود على عبارة "حرب الجزائر"، فما هي أسباب التمسك، حد التطرف، بهذه التسمية؟ ينطلق الفرنسيون، في اعتبار ما وقع في الجزائر، بين 1954 و1962، مجرد حرب من كون فرنسا وغيرها من دول العالم الحر تسير وفق المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية (1789) والتي هي الحرية والإخاء والمساواة، وبالتالي فلا يمكن أن توجد، في نظرهم، ثورة أخرى غير ثورتهم ولا مبادئ أخرى غير مبادئها، مع أن الذي وقع في الجزائر، في تلك الفترة، هو ثورة بكل المقاييس. يكفي العودة إلى القواميس والموسوعات الفرنسية نفسها وقراءة ما تعني عبارة "ثورة" وسنجد أنها تنطبق على ما كان يقع في الجزائر إبان تلك الفترة، هذا من جهة. من جهة أخرى، تسجل وثائق الثورة الجزائرية، خاصة بيان أول نوفمبر، أن الثورة الجزائرية قامت من أجل تحقيق نفس المبادئ التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية، فالبيان يتكلم عن الحرية للشعب الجزائري وعن المساواة التي يجب أن تكون لكل الجزائريين أمام القانون وعن إلغاء كل النصوص المجحفة التي تجعل الجزائريين مجرد مواطنين من الدرجة الثانية. البيان يتحدث عن استعادة السيادة الوطنية لإعادة بناء الدولة الجزائرية وفق مبادئ القانون الدولي والمساواة بين الجميع. من أجل هذه الأهداف قامت الثورة الجزائرية وواجهت، لمدة أكثر من سبع سنوات، فرنسا بجيشها وسياسييها وإعلامها وانتصرت عليها. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار أن الثوار الجزائريين صارعوا وقاتلوا أبناء الثورة الفرنسية والمنتمين إليها من أجل نفس المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية والتي يقول المفكرون الفرنسيون أنها، أي المبادئ، حررت الكثير من الشعوب من عبودية الأنظمة الفاسدة. انتصار الثورة الجزائرية، هو، من هذا المنطلق، انتصار على الثورة الفرنسية، وهو ما يطرح مشكلة فلسفية وأخلاقية عميقة على الشعب الفرنسي لأنه واجه بوحشية مطالب شعب لم يكن يطالب سوى بحقه في الحرية والمساواة. ونخلص في الأخير إلى أن المبادئ التي كان يجب أن تسود، منذ 1962، هي مبادئ الثورة الجزائرية لأنها الثورة المنتصرة على بقايا الثورة الفرنسية، لكن الذي وقع أن معظم الجزائريين، من صحفيين وكتاب، من الذين يكتبون باللغة الفرنسية انحازوا، عن قصد أو بدونه، إلى الموقف الفرنسي من الثورة الجزائرية باستعمالهم عبارة "حرب الجزائر". "الحرب"، تعرف في القواميس على أنها ذلك النزاع المسلح الذي يحدث بين الأمم أو الدول أو مجموعات بشرية، وهي تتطلب وجود شيء من التوازن في وسائل الردع بين الفريقين المتحاربين، وللحرب أساليبها وأخلاقها أيضا. هذا التعريف، لا ينطبق أبدا على ما وقع في الجزائر مع مطلع الخمسينيات، إذ كان هناك "نزاع" بين شعب أعزل محروم من كل شيء ولا سلاح له في مواجهة سلطة احتلال بجيشها وشرطتها وإدارتها ومواطنيها ومن ورائها دولة "فرنسا" هي من أقوى دول المعمورة وقتها إضافة إلى معظم ما يعرف بدول العالم الحر. فأين هي الحرب هنا؟ كيف يمكن الحديث عن حرب بين قوة بلغ تعدادها، مع نهاية الخمسينيات، المليون فرد يؤطرهم 60 جنرالا و700 عقيد في مواجهة شعب مجوع ومرحل ومورست عليه كل أنواع الجرائم الموصوفة حاليا في خانة الجريمة ضد الإنسانية؟ كيف يمكن الحديث عن حرب والذين رفعوا السلاح (مجرد بنادق صيد بعضها غير صالح للاستعمال) لم يتجاوز عددهم الأربعة آلاف فرد في نوفمبر 1954؟ إنه كمين المفاهيم ، فاستعمال عبارة "حرب الجزائر" من شأنه أن يحفظ للثورة الفرنسية بريقها المشع على العالم ولا تحرج أمام التاريخ لكونها وقفت ضد شعب طالب بنفس مبادئها وانتصر عليها، كما أن استعمال هذه العبارة يوحي للمتلقي –خاصة الأجيال الجديدة- بأن ما وقع في الجزائر هي حرب والأخطاء مقبولة في الحروب كما أن القتل هو من الأمور العادية في الحروب. القول بحرب الجزائر هو ظلم آخر يمارس في حق شهداء الثورة الجزائرية وإعفاء لفرنسا من جرائمها ضد الإنسانية .. إنه ما يفسر عدم تحمس الكثير من المثقفين الجزائريين لمحاسبة فرنسا على جرائمها لأنهم واقعون تحت سحر مبادئ الثورة الفرنسية ولا يتصورون أن يشوه بقايا أولئك "الحفاة العراة" الذين قاموا بالثورة على فرنسا وجه هذه البلد الجميل.