تعود ذكرى 8 ماي 1945 وتعود معها صور المجازر والإبادة، التي لم تستطع فرنسا إلى اليوم التخلص من كابوسها المزعج، على الرغم من محاولاتها الفاشلة تبرير ما وقع... على العكس من ذلك، تحاول الجزائر جاهدة تسجيل هذه الذاكرة للأجيال، خاصة وأن جيل 1945 في رحيل مستمر، ولكي تبقى هذه الصفحة الحمراء من تاريخنا صفعة في وجه المدرسة الكولونيالية تضربها كلما حاولت التزييف. في هذا الشأن، يحدثنا الدكتور جمال يحياوي، مدير المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة 1 نوفمبر 1954، إضافة إلى شؤون أخرى لها علاقة بالتاريخ الوطني... - مجازر 8 ماي 1945 منعطف هام في تاريخنا الوطني، فهل يمكن تصنيفها في خانة جريمة دولة؟ * يسمى هذا التاريخ في بعض المصادر بأحداث 8 ماي 1945، بينما يسميه الباحثون ب"المجازر"، ذلك أن تلك الأحداث لم تكن عادية أو مجرد مظاهرات أو مسيرة، بل كانت مجزرة وجريمة ضد الإنسانية بأتم معنى الكلمة، ارتكبت في حق مواطنين عزل، لو وقعت هذه المجزرة مثلا في مظاهرة رافضة لسياسة معينة أو كانت عبارة عن مواجهة مسلحة، لوجدها المستعمر ذريعة لتبرير أفعاله، ومن هذا المنطلق والعنوان، نتحدث عن "مجازر" وليس "أحداث".. الحدث في حد ذاته عملية إرهابية ارتكبتها الهيئات الرسمية الفرنسية بما فيها من إدارة ومنتخبين محليين وجيش وشرطة وحتى معمرين، وعبرت عن الوجه الحقيقي للاستعمار في الجزائر والذي لم يتغير في تصرفاته الهمجية ضد الجزائريين، إذن، في 8 ماي 1945 بالشرق الجزائري، تم استهداف متظاهرين خرجوا مثلما خرج غيرهم من مختلف الشعوب أصقاع العالم للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية؛ متظاهرين لم يكونوا يحملون سلاحا ولم يرددوا شعارات معادية لفرنسا ولم تصدر منهم تصرفات خارج إطار المسيرات والمظاهرات، ورغم ذلك قوبلوا برد لم يكن متوقعا من حيث الهمجية والوحشية، وعليه، فإن ما وقع في سطيف، قالمة وخراطة، جريمة ضد الإنسانية وتتوفر فيها كل القرائن والدلائل التي وضعها رجال القانون ونصت عليها الاتفاقيات الدولية في مجال حماية حقوق الإنسان. - هل كانت المظاهرات عفوية تماما، أم أنها خضعت للتنظيم، خاصة من طرف الحركة الوطنية آنذاك؟ * المظاهرات في مناطق معينة كانت محضرة ومؤطرة من طرف أحزاب الحركة الوطنية، لكن ذلك دائما في إطار مطالب سلمية، من خلال تذكير فرنسا بوعودها السابقة من جهة، وإظهار صوت الجزائرالمحتلة للعالم، وقد حاولت من خلالها الحركة الوطنية الجزائرية توجيه رسالة إلى الرأي العالمي، مفادها أنه رغم انتهاء الحرب الكونية الثانية ما زالت هناك شعوب تحت الاستعمار منذ أكثر من قرن، ومن حقها هي أيضا أن تنال استقلالها وتسترجع حريتها، وفي مقدمتها الشعب الجزائري، فتأطير الأحزاب لهذه المظاهرات لا يعني عدوانيتها، بل هي دليل على سلميتها ودليل على تأصيل الحركة الوطنية في صفوف الشعب الجزائري. - غالبا ما ينحصر تاريخ 8 ماي في سطيف، قالمة وخراطة، في حين أن مناطق أخرى من الوطن شهدت نفس الأحداث كالعاصمة مثلا؟ * نحن دائما مرتبطون بالهالة الإعلامية، إن صح التعبير، فالإعلام الأمريكي والفرنسي آنذاك، ركز على ما وقع في مدن قالمة، خراطة وسطيف وربط ذلك بأحداث 8 ماي، في حين أن الإرهاصات الأولى لما وقع بدأت تظهر في بداية شهر ماي 1945، من خلال مظاهرات نظمت في العاصمة وتواصلت إلى نهاية ماي، شملت العديد من المدن من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وحتى رقم 45 ألف شهيد هو نتيجة لثلاثة أو أربعة أيام الأولى من الأحداث فقط، في حين أن عمليات القتل العشوائي تواصلت إلى غاية 30 ماي، مما يؤكد أن عدد الشهداء يتجاوز بكثير الرقم المقدم. - تشككون في عدد 45 ألف شهيد، فما هي حجتكم؟ * إذا كان كثير من رجال الإعلام آنذاك وفي اليوم الثالث والرابع من الأحداث قدموا رقم 45 ألف شهيد، وإذا كانت التقارير العسكرية الفرنسية تتكلم عن مواصلة العمليات العسكرية طوال شهر ماي، وأن قرى بكاملها دمرت وأحرقت، وأن عملية القتل كانت تتم في شوارع المدن الكبرى دون تمييز في المقاهي والمحلات التجارية وفي بعض أماكن العمل، وشملت الفلاحين في حقولهم والرعاة في مراعيهم، فكيف يعقل أن يبقى الرقم المقدم في اليوم الرابع من المظاهرات هو الصحيح، خاصة ونحن نعلم أن الإحصائيات الخاصة بالسكان الجزائريين لم تكن متوفرة بصورة عقلانية، لأن غالبية الجزائريين كانوا يرفضون تسجيل أنفسهم لدى الإدارة الفرنسية، وعليه، فإنني أؤكد أن الرقم أكثر من 45 ألف شهيد. - هل اعتمدتم على وثائق رسمية أو الأرشيف مثلا لتحديد عدد الشهداء؟ * الأرشيف موجود خارج الجزائر، كما أن الإحصائيات المسجلة وتدوين أسماء من قتلتهم فرنسا في تلك الفترة وسجلات الحالة المدنية ليست صحيحة كما سبق وأن ذكرت، لكن من خلال الوقائع وتركيب الأحداث ومن خلال عدد القرى والمشاتي التي دمرت وأحرقت والمقدرة بالعشرات، وباعتبار أن كل مشتى تضم من 800 إلى ألف شخص، فإن العدد يقدر بعشرات الآلاف، يضاف إلى ذلك عدد المستهدفين في الأسواق الشعبية، فالعملية مست أكثر من خمسة أسواق ومعدل تواجد المتسوقين يتجاوز الألف في كل سوق، يضاف إليهم من قتلوا في الشوارع والمقاهي والمحلات، فجمع هذه الأرقام هو الذي يؤكد ما نقول. - كيف يمكن توثيق هذه المجازر وتسجيلها بشكل علمي وأكاديمي في ذاكرة التاريخ؟ * بالفعل، والأمر لا يخص فقط مجازر 8 ماي، بل كل المحطات التاريخية التي عرفت ارتكاب مجازر كبرى، وأول نقطة مهمة، هي أن يحرر الأرشيف ويتمكن الباحثون من الاطلاع على تقارير عسكرية وتقارير الشرطة خاصة السرية منها، وأغلبها متواجد اليوم في فرنسا، وعند توفر هذه المادة الأرشيفية يمكن للباحث والمؤرخ تركيب وصياغة الأحداث، وللقانون ترتيب القرائن والدلائل لإضفاء صبغة الجريمة والإبادة، كما أن للإعلام دوره في تحويل هذه المجزرة إلى أعمال فنية. - تحاول بعض الجهات اليوم التشكيك في عدد شهداء هذه المجازر والتقليل من شأنها، كيف تردون؟ * لا يعتبر ذلك جديدا على المدرسة الكولونيالية. لأنها الآن تحاول تبييض مسارها في الجزائر وتواجدها عبر 132 سنة، خاصة وقد بدأت تظهر في فرنسا نفسها أصوات مؤرخين وصحفيين مناهضين للاستعمار، وعليه، تسعى هذه المدرسة إلى إيجاد الذرائع لتبرير المجازر المرتكبة وانتهاكات حقوق الإنسان في الجزائر، من خلال إيجاد بعض المصطلحات غير المقنعة ك "الدفاع عن النفس" أو "حماية الجمهورية الفرنسية وحماية مصالح الجيش والمعمرين" أو مصطلح "التهدئة"، وفي بعض المرات اعتبار تلك الجرائم مجرد تصرفات شخصية لبعض قادة الجيش والشرطة، وفي أخرى من الأخطاء العسكرية، وهي كلها محاولة لتغطية وإبعاد المسؤولية الرسمية للدولة الفرنسية فيما وقع. - ما هو البرنامج الذي حضرتموه لإحياء هذه الذكرى؟ * نحن بصدد إعداد ملف تاريخي حول الحدث من طرف باحثين من المركز، إضافة إلى تنشيط محاضرات عبر عدة مؤسسات وجامعات، فضلا عن المساهمة في ملتقى يعقد بسطيف وآخر بقالمة عن المناسبة، وكذا تسجيل حصص إذاعية حول الحدث. - بماذا تريدون أن نختم الحديث؟ * بضرورة الاهتمام بالتاريخ وتوخي المصداقية في تقديم الأحداث.