رغم أن الخضر قد خسروا مباراتهم الأخيرة في نصف نهائي كأس أمم أفريقيا، إلا أن لا أحد في الجزائر يشعر بطعم الهزيمة، بل على العكس من ذلك، فإن أنصار المنتخب الوطني الذين رافقتهم » صوت الأحرار« إلى بانغيلا قد غادروا الجزائر بآمال عريضة، وأدوا دورهم كاملا،في مناصرة الفريق الوطني حتى بعد انتهاء المباراة، وعادوا إلى أرض الوطن عودة المنتصر. اهتز مطار هواري بومدين ليلة، أول أمس، على وقع وصول أنصار المنتخب الوطني، الذين هتفوا للخضرة مرددين عبارة » يعطيكم الصحة يا لولاد « لدى خروجهم من الطائرة، وهي عبارة طال الهتاف بها رغم انتهاء المباراة، بما يؤكد بكل وضوح رضا الأنصار عن أداء الخضر الذين كانوا يلعبون ضد خصمين وليس خصما واحدا. ------------------------------------------------------------------------ بداية الرحلة .... آمال عريضة بداية من الساعة الثالثة صباحا من يوم الخميس الفارط، بدأ أنصار الفريق الوطني بالتوافد على مطار هواري بومدين، استعدادا للسفر إلى أنغولا، وقد أقلعت أولى أربع طائرات تابعة للخطوط الجوية الجزائرية في تمام الساعة السادسة والنصف صباحا، أما الطائرة التي كنا على متنها فقد أقلعت في تمام الساعة السابعة و45 دقيقة، وما أن حلقت في السماء حتى أحسست أنها تهتز ذات اليمين وذات الشمال على وقع أهازيج أنصار الخضر الذين هتفوا طويلا بأسماء لاعبي المنتخب الوطني تارة ورددوا أغان رياضية وأدعية بالفوز تارة أخرى، كما لم ينسوا أن يشكروا رئيس الجمهورية لأنه منحهم فرصة الذهاب إلى أنغولا التي كانت شبه مستحيلة لغالبيتهم. وبملاحظة بسيطة يدرك الناظر إلى هؤلاء المناصرين أنهم من فئات عمرية واجتماعية مختلفة، فهناك الشاب، والكهل، وحتى الشيوخ الذين شارفوا على عقدهم السادس، بل إن هناك أيضا عددا من الأطفال والمراهقين، وحتى النساء وبعض العائلات، ممن رافق عدد كبير منهم المناصرين إلى بانغيلا. وقد انضم إلى الأنصار في احتفالهم أيضا أعضاء طاقم الطائرة الذين ارتدوا الألوان الوطنية وهتفوا بحياة الجزائر، وبدوره لم يفوت الممثل الحاج لخضر الذي كان موجودا على نفس الطائرة الفرصة ليخلق جوا من الفكاهة التي تخفف على الجميع مشقة الطريق. وقد كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت العلم التونسي أمامي، فاقتربت من صاحبه وسألته هل أنت جزائري أم تونسي، فأجاب بأنه من تونس ويعيش منذ 4 أعوام تقريبا في الجزائر، وبأنه قد ذهب إلى القاهرةوأم درمان لمناصرة الفريق الوطني وهو سيكمل مهمته اليوم بالتوجه إلى أنغولا، وبعدها سيقصد جنوب إفريقيا لمناصرتهم في المونديال، هذا الشاب التونسي لم يكن وحده الذي يرافق الخضر بل أيضا كان هناك تونسيين آخرين معه على متن ذات الطائرة وقد حملا لواء مرافقة الخضرة في مشوارها الحافل، حسان التونسي أكد لنا أن علاقة مناصرته للفريق الوطني تعود إلى عام 1982، وأنه يعشق تونسوالجزائر على حد سواء، ويشجع فريقيهما، غير أن اللافت للانتباه في كل هذا هو العلاقات الحميمية التي نشأت بين المناصرين الذين رافقوا بعضهم البعض في عدة مقابلات، فالكل يعرفون بعضهم البعض، ويستذكرون ما حدث في المباريات السابقة من مغامرات واحتفالات بالنجاح. ومن فئات المناصرين الذين سافروا إلى بانغيلا أيضا فتاة وشاب لم تمنعهما إعاقتهما من حضور المباراة الحاسمة للوقوف إلى جانب أبناء سعدان في معركتهم للتأهل إلى نهائي كأس أمم إفريقيا، والغريب في الأمر هو أنهما قد دخلا قبل الجميع إلى الأماكن المخصصة للمناصرين الجزائريين. ------------------------------------------------------------------------ بانغيلا تتزين بالأعلام الوطنية بعد مضي وقت طويل على بداية الرحلة، خيم على الطائرة جو من الهدوء وكأن الأنصار فضلوا ترك بعض الطاقة للمساء، ومع قرب وصولنا إلى بانغيلا نحو الساعة الثانية والنصف زوالا، أخبرتنا مضيفة الطائرة أن درجة الحرارة هناك تصل إلى 39 مئوية، وخلال نزول الطائرة على أرضية مطار بانغيلا العسكري الذي لم يكن مناسبا لهذا النوع من الطائرات الكبيرة وهو ما سبب كثيرا من المشاكل والتأخير لدى العودة، استعاد الأنصار نشاطهم من جديد. فبعد انتظار حوالي ساعة من الزمن داخل الطائرة ليتسنى لمسؤولي المطار البحث عن سلالم تناسب طائرتنا، تنفسنا أخيرا هواء بانغيلا الذي كان ساخنا ورطبا شأنه شأن أي مناخ استوائي. ثم التحقنا بعد ذلك بعدد من الحافلات، وقد جابت بنا هذه الحافلات مدينة بانغيلا التي وقف سكانها على حافة الأرصفة ونوافذ البيوت، وفي الأسواق ملوحين للجزائريين، ومتمنين للفريق الوطني الانتصار، حتى أن بعض الذين تحدثنا إليهم بلغة تميل إلى الإشارات منها إلى الكلام - ذلك أنهم لا يفهمون سوى البرتغالية-، توقعوا أن يكسب الفريق الوطني المباراة بهدفين لصفر، لولا أن الحكم شاء دون ذلك. بعد وصول المناصرين الجزائريين إلى بانغيلا، تحولت المنطقة إلى ولاية جزائرية بعد أن عمت الألوان الوطنية المكان، وعلى غرار شعب السودان الشقيق الذي لن تمحى مواقفه من أذهان الجزائريين، حمل عدد كبير من سكان بانغيلا العلم الوطني، والتحقوا بالمدرجات التي خصصت للجزائريين وتفننوا رفقة مناصرينا في الهتاف والتشجيع. أما سائق الحافلة الذي كنا معه فقد أطلق عليه الشباب مازحين اسم » كايتا«، وألبسوه ألوان العلم الوطني، بينما ساعدهم هو بوضع الموسيقى داخل الحافلة، وبعد وصول المناصرين إلى الملعب في تمام الساعة السابعة، امتلأ الشارع بالأعلام الجزائرية التي لوح بها شبان من بنغيلا وأطفال كانوا يريدون الحصول على أكل وقبعات، بينما فضل عدد آخر منهم القيام بعمليات مقايضة بإعطاء العلم الأنغولي مقابل ألوان الخضرة. ------------------------------------------------------------------------ مشاكل في دخول الملعب حل المساء ولم يكن يفصلنا على بداية المباراة سوى 30 دقيقة أو أقل، وبعد أن توقعنا أننا سندخل إلى الملعب فاجأنا أعوان الأمن الأنغوليون برفض دخولنا، وإصرارهم على إبقاءنا خارج الملعب، ولكم أن تتخيلوا شعور شخص تحمل مشقة الطريق، ليبقى خارج الملعب، أي على بعد أمتر قليلة من المكان الذي يخوض فيه الخضر معركتهم نحو التأهل، وربما عندما أسترجع مثل هذه الصور اليوم أضحك، لكنها في وقتها كانت مرعبة، شبان هددوا بالانتحار أمام الجميع، وآخرون أكدوا أنهم سيدخلون عنوة ويصرا واش يصرا، وبدأت أعضاب الجميع بالتوتر، ما دفع الأنغوليين إلى استقدام قوات مكافحة الشغب التي كانت تملك عصيا كهربائية لشل كل من يتمرد عليهم، ثم عززوها بعد ذلك بكلاب مدربة. كان التفاهم مع السلطات الأنغولية صعبا، ولم نجد أي مسؤول نتصل به في تلك اللحظات، غير أننا وبعد مد وجزر معهم، وبعد أن أخبرناهم أننا صحفيون طلبنا منهم أن يتصلوا بالسفارة الجزائرية، فغابوا قليلا ثم عادوا ليقولوا إن المشكل قد تمت تسويته، ------------------------------------------------------------------------ المناصرون...لاعب عنيد لا يمكن للحكم إخراجه ودخلنا الملعب آمنين، لكننا لاحظنا أن هناك تحكم كبير في عدم ترك أية فرصة لاحتكاك أنصار المنتخب الوطني مع مناصري الخصم، وفي الملعب تم وضعهما متقابلين في المقاعد التي تطل على شبكة كل فريق، ورغم أن الإنهاك والتعب قد فعل فعله في المناصرين الذين شعروا بالفتور مع تسجيل أول هدف في عرين الحارس شاوشي، إلا أنهم بقوا يصرون على التشجيع إلى آخر رمق، وكان الهدف الثاني مخيبا لآمال المناصرين الذين خيم عليهم الصمت لفترة من الزمن، فتوقفوا عن المناصرة وشخصت عيونهم تنظر إلى اللاعبين الذين كانوا يطلبون منهم أن يهتفوا بشعارات الخضر، إلا أن الصدمة كانت كبيرة، وبعد فترة، وأمام تواطؤ الحكم تأكد المناصرون أنهم اللاعب الوحيد الذي لا يمكن للحكم أن يخرجه تحت أي طائل، بعد أن أخرج جميع العناصر الفاعلة في الفريق، فاستغلوا ذلك، وقاموا من جديد، لترتفع هتافاتهم مرددين »يعطيكم الصحة يا لولاد« ، وظلوا على هذه الحال إلى ما بعد انتهاء المقابلة بعدة دقائق، وهنا أحسست أن الخسارة لم تحرك لدى الأنصار ساكنا، بل على العكس من ذلك زادتهم تمسكا بفريقهم، أو أنها ربما لم تكن حدثا أصلا بالنسبة إليهم. ------------------------------------------------------------------------ الأنصار يكفكفون دموع بوقرة لاعبوا المنتخب الوطني لم يجدوا أمام نتيجة المباراة التي فرضت عليهم فرضا إلا أن يقدموا اعتذاراتهم للمناصرين الذين تكبدوا عناء السفر إلى أنغولا من أجل مساندتهم، لكن اللاعب مجيد بوقرة الذي كان عنيدا في صد كرات كثيرة وإخراجها، صنع المشهد الأكثر تأثيرا، فقد توجه إلى الأنصار مرددا كلمة » اسمحولنا «، لكنه لم يتحمل الموقف فنزلت دموعه على وجنتيه وهو المشهد الذي أثار هول المشجعين واقتربوا منه مرددين عبارات الرضا على أداء الفريق، فكانوا جميعا يدا واحدة امتدت لتمسح دموع بوقرة، وأية دموع تلك التي تنزل من مقلة بطل طالما أعلى كلمة الجزائر، بوقرة لم يجد ما يقدمه للجزائر بعد الخسارة غير هذه الدموع الغالية علينا جميعا، والتي لا يدرك قيمتها إلا الجزائريون الذين يعرفون أننا شعب لا نبكي إلا إذا كانت دموعنا حقيقية وصادقة، فكانت فعلا لحظة صدق بين الأنصار وبوقرة، تدل على أن اللاعبين أيضا يحبون ويقدسون مناصريهم، وربما يكون الخضر قد خسروا هذه المباراة، لكنهم في مقابل ذلك كسبوا أنصارا يمشون معهم على الحلو والمر، ويشدون أزرهم كلما اقتضت الضرورة. لقد كان مناصرو الخضرة الذين ذهبوا إلى بانغيلا أيضا أبطالا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد أظهرت مقابلة الخضر في بانغيلا علاقة مميزة تجمع بين الأنصار واللاعبين، علاقة جعلت الأنصار يشجعون الخضر حتى وهم منهزمون -إن صحت الكلمة-، وجعلت صايفي رفقة بعض اللاعبين يتدخلون لمنع الشرطة الانغولية من ضرب أحد المناصرين الذي دخل عقب المباراة إلى الملعب، وجعلت بوقرة يبكي بين يدي الأنصار في مشهد نادر الحدوث، أما بقية اللاعبين، فقد قدموا قمصانهم للمناصرين علها تخفف عنهم صدمة الهزيمة، ومن المشاهد التي أذكرها أيضا، أن بوقرة أراد أن يمنح قميصه لأحد الأنصار الذي سمعته فيما بعد يؤكد أنه سيحتفظ به دون غسله »لأن به عرقا سال من أجل الجزائر«، لكن المناصر سقط بينما كان يريد التقاط القميص، فأدركه بوقرة ولحسن الحظ لم يصب المناصر بأية إصابات خطيرة. عقب المقابلة، خيمت أجواء كئيبة على المناصرين لدى عودتهم إلى المطار الذي ظلوا فيه إلى غاية ركوب الطائرات والعودة إلى الجزائر، كما نال منهم التعب، وقد أمضى المناصرون ومنهم أطفال، وشيوخ ونساء وحتى من ذوي الحاجات الخاصة ليلتهم أمام مطار بانغيلا الذي لم تكن تتسع قاعته الشرفية لكل هذا العدد الكبير من المناصرين، وسادت حالة من الفوضى خاصة في ظل غياب المنظمين. ------------------------------------------------------------------------ مشاكل في مطار بنغيلا الرحلة إلى بانغيلا كانت متعبة جدا، وبعد العودة إلى المطار العسكري لم يكن المناصر الواحد من الموجودين هناك يحلم حينها بشيء سوى بمكان نظيف يرتاح فيه إلى أن يلتحق بالطائرة ليعود إلى أرض الوطن، ومرت ساعات وساعات، والمناصرون يفترشون أرض بانغيلا ويلتحفون سماءها إلى أن تم إرسال عدد من الأفرشة التي لم تكن تكفي حتى لنصف الموجودين هناك، أما الأكل الذي قدم لهم فلم يتبقى منه ما يكفي لسد الحاجة، وهنا بدأ الغضب يسيطر على المناصرين الذين طالبوا بالتعجيل بنقلهم إلى الجزائر، غير أن طبيعة المطار العسكرية قد عطلت إجراءات إقلاع طائرات الخطوط الجوية الجزائرية، ومع كل هذه الأعطال، ازدادت ثورة الشبان الذين أنهكهم الوقوف لساعات طويلة تحت الشمس الحارقة في درجة حرارة تجاوزت ال 39 درجة مئوية، مما أدى إلى إصابة عدد كبير منهم بالدوار جراء تأثير الحرارة، هذا الوضع بدأ يعزف على أعصاب الشباب الذين بدؤوا يثورون على الأوضاع، وقد قابلت السلطات الأنغولية ذلك بإحضار قوات مكافحة الشغب التي عملت على تنظيم نقل الأنصار إلى الطائرات. عودة الأنصار في الطائرة، كانت متعبة أكثر من الذهاب، لكنها كانت ممتعة أيضا، فقد أعاد الأنصار حكايات المقابلة، كل يتحدث عمن لعب جيدا ومن لم يلعب، إلا أن كل الآراء صبت في مجرى أن الحكم لم يكن في المستوى المطلوب منه، وأن الجزائر والفريق المنافس كانا سيؤديان مباراة أكثر إبداعا ومتعة من هذه المباراة التي افتقدت إلى روح كرة القدم، وأنهم ذهبوا إلى بانغيلا أولا وأخيرا من أجل الاستمتاع باللعب، بينما اعتبر بعضهم أن نهائي كأس إفريقيا للأمم كان المباراة التي جمعت بين الجزائر والكوت ديفوار والتي عكست عن حق مستوى فريقنا الوطني الذي يستحيل أن يؤدي أي فريق آخر مباراة أبهرت العالم كتلك. مرت ساعات وساعات ونحن على متن الطائرة، إلى أن تراءت لنا أضواء العاصمة، وبعد أن هبطنا في مطار هواري بومدين، ولدى مرورهم على الجمارك، صنع هؤلاء أجواء بهجة أخرى، أعادوا بها إحياء الأفراح التي صنعها أشبال سعدان حيث رددوا عبارات مساندة قوية للخضر وتغنوا باللاعبين، ولعل أكثر ما يثير الغرابة في كل هذا هو قدوم عدد كبير من المواطنين لاستقبالهم، وأعتقد أن أشبال سعدان لوعادوا في تلك الليلة معنا لكان في استقبالهم ملايين المواطنين ولكان هذا الاستقبال في نفس مستوى الاستقبال الذي حظوا به عقب فوزهم في أم درمان. لقد أراد كل الشبان الذين تحملوا عناء الذهاب إلى أنغولا والعودة في ظرف قياسي، والدين صنعوا أجواء البهجة في المطار أول أمس، أن يقولوا جملة واحدة مفادها أن الفريق الوطني هو المنتصر وليست جهة أخرى، وأخالهم قد صدقوا في ذلك، فلا أحد في الجزائر كلها