أثارت مسألة الصورة واللحية في جواز السفر البيوميتري زوبعة لم تهدأ بعد؛ ونحن هنا لن نناقش القضية من باب »يجوز أو لا يجوز« أو من باب ما يقوله القانون وما تفرضه الالتزامات الدولية المتعلقة بوثائق السفر وهل تقبل أو لا تقبل في مطارات العالم؛ فما يهم أكثر، في نظرنا، هو مصير النقاش والحوار في الجزائر والكيفية التي تسير بها القضايا التي تهم شريحة واسعة من المواطنين. لعلنا، في الجزائر، الشعب الوحيد في العالم الذي يناقش قضاياه الداخلية في الشارع وعبر القنوات الدولية؛ فكلما طرحت قضية جديدة في الجزائر إلا وبدأ النقاش حولها في الشوارع والمقاهي لينتقل بعد ذلك إلى »بلاتوهات« العديد من القنوات التي تبث باللغة العربية عبر العالم. في كل مرة، تصنع الجزائر الحدث بالنسبة لهذه القنوات، وفي كل مرة نقدم النموذج للآخرين على أننا جد مختلفين في هذا البلد. المشكل ليس في القنوات التي تتصيد الفرص لزيادة عدد مشاهديها عبر قضايا جزائرية داخلية كثيرا ما شكلت مادة إعلامية دسمة، كما أن المشكل ليس في المثقفين والسياسيين الجزائريين الذين يوافقون على المشاركة، على المباشر أو عبر الهاتف، في مناقشة قضايا لهم فيها ما يقولون. المشكل ليس هنا أبدا، إنما هو في غياب مساحات النقاش في الجزائر. الناس يتساءلون باستمرار: إلى متى تبقى الجزائر مغلقة على النقاش؟ ولماذا لا نناقش قضايانا الوطنية بيننا في الجزائر؟ الإجابة عن السؤالين السابقين تجر لطرح سؤال آخر: هل تهتم السلطة في الجزائر برأي المواطن حقا وهل يهمها إقناعه بوجهة نظرها؟ في بلدان العالم التي تتوفر ولو على الحد الأدنى من الحكامة، توجد آليات معينة تتبع في إقناع المواطنين وأول هذه الآليات هو طرح الفكرة الجديدة أو محتوى القرار "الغير شعبي" أو الذي لا يتوافق في محتواه ومراميه مع رأي أو قناعات (ولو مغلوطة) نسبة معينة من الرأي العام للنقاش قبل اتخاذ القرارات وإصدار القوانين. النقاش لا يجب أن يتم في الشارع وبدون ضوابط، لأن الشارع يحمل يحتوي على الكثير من الأخطار؛ فهو مكان الكلمة الحرة الغير ملتزمة والغير دقيقة والغير مسؤولة. إنه الشارع، وكلام هذا المجال هو كلام شوارع، كما يقال. في الشارع، يوجد كل من يريد إحداث البلبلة ونشر الأفكار المتطرفة والآراء المغرضة، كما يوجد أيضا من يصدق بسرعة وبدون تمحيص كل ما يسمعه وما يقال له. الشارع، هو أيضا مكان العامة من الناس أو »الغاشي« بالتعبير الجزائري، وهذا »الغاشي« بأميته أو محدودية مستواه التعليمي وبمشاكله اليومية من بطالة وضيق ذات اليد، هو عادة على تمام الاستعداد للاستماع، كما يتميز بالقابلية للتأثر، وعندما يجد من يدغدغ عواطفه ويجيد محادثته فانه ينساق إليه بكل سهولة. ولأن التغيير الإيجابي الذي يدفع نحو البناء والحداثة لا ينطلق أساسا من الشارع ولا أن يخطط له (أو يقاد) من طرف أنصاف المتعلمين أو الدراويش أو القابعين في أعماق التاريخ أو المؤمنين بشيوخ هياكل تقليدية تجاوزها الزمن منذ أيام الثورة التحريرية الكبرى؛ لذلك يكون اللجوء للنخب المتعلمة المستنيرة الشجاعة في طرح الآراء والأفكار، الصادحة بالقول الصحيح دون خوف أو خشية من أحد. النخب وحدها، من تستطيع تنوير العامة وإقناعها بالأفكار الجديدة والبناءة، وهي الأقدر، إن صدقت مع نفسها ومع مصالح وطنها، على قيادة الرأي العام لما فيه صالح الجميع. لكن ألا يعتبر الحديث عن النخب في الجزائر من باب الطوباوية؟ لأن السؤال الذي قد يطرح هو: أين هي هذه النخب ولماذا لا يعرفها الناس ولا يشاهدونها ولا يلتقون بها في أي مكان؟ للإجابة، لا بد من العودة، مرة أخرى، إلى نماذج الدول التي يتوفر فيها الحد الأدنى من الحكامة، وهذه تعمل بكل الوسائل على إبراز نخبها الوطنية والتعريف بها، وفي هذا المجال يلعب التلفزيون الدور الأساسي، لأنه الوسيلة الأكثر انتشارا وتأثيرا. تلفزيونات الدول المتقدمة تفتح »بلاتوهاتها« للنخب الوطنية لتناقش القضايا والمسائل التي تهم الرأي العام الوطني. من خلال النقاش، تبرز الأفكار الجيدة البناءة على حساب الأفكار الرديئة والمتطرفة، ومن خلال النقاش أيضا، يتم توجيه الرأي العام نحو الاهتمام باللب والجوهر بدل القشور والتوافه من الأمور. ولأن النقاش، داخل »الاستوديو«، يتم في أطر محددة ومنظمة؛ ولأنه »مسيج« فان »الاستوديو« يحل محل نقاش الشارع من جهة ويعرف بالنخب الوطنية وكفاءاتها وقدراتها من جهة أخرى. فتح النقاش عبر التلفزيون، يفرض بالضرورة فتح مجال السمعي بصري أمام القطاع الخاص لأن القناة العمومية لا يمكنها، مهما كان مستوى العاملين بها أو القائمين عليها، أن تملأ الفراغ الاتصالي الموجود بين السلطة و»الرعية« ولا أن تستطيع، لاعتبارات عديدة، فتح المجال للنقاش العام ولا أن تساهم في التعريف بالنخب الوطنية التي هي وحدها –نكرر القول- القادرة على رفع مستوى النقاش إلى ما يبني ويطور ويعصرن ومواجهة أفكار الردة والتخلف والجذب نحو الدياجير. لا بد من إقناع السلطة بأن فتح المجال السمعي بصري سيخدمها أكثر مما يضرها لأنه سيعيد النقاش حول القضايا الجزائرية إلى الجزائر لتناقش من طرف جزائريين ولصالح الجزائر وفي قنوات جزائرية؛ ولا بد أن تدرك بأن النخب الجزائرية موجودة وهي وإن غيبت من الحياة العامة بسبب رفضها القيام بدور الملمع للأفراد فأنها، في نفس الوقت، على تمام الاستعداد لتلميع الوطن وخدمة الجزائر والذود عن سمعتها بدون مقابل، لأن طموح كل مثقف حقيقي أو فنان أصيل هو أن يتمكن يوما من تقديم خدمة تفيد أمته.