أحداث مؤسفة شهدتها منطقة سيدي إيفني بالجنوب المغربي، فغطّت قناة الجزيرة الفضائية القطرية تلك الأحداث كأي قناة تحترم نفسها، وبثت بالتالي خبرا تحدث عن سقوط قتلى برصاص قوات الأمن المغربية، وبثت في المقابل نفي الجهات الرسمية المغربية لذلك، وآوى حسن الراشدي، مدير مكتب الجزيرة في الرباط، إلى فراشه آمنا مطمئنا، فما قام به هو واجب كل صحفي يدرك جيدا أصول وثوابت مهنة المتاعب. الأيام التالية لم تحمل ما يسرّ لمكتب الجزيرة في الرباط؛ فالاستياء المغربي الرسمي من تغطية تلك الأحداث كان أكبر من المتوقع، حيث تم سحب الاعتماد الصحفي للزميل الراشدي، ومن ثمّ ملاحقته قضائيا بتهمة نشر خبر زائف، وزاد الطين بِلّة ذلك التوتر الذي بدأ يتسع بين قناة الجزيرة والسلطات المغربية إثر منع الأخيرة بث النشرة المغاربية من الرباط قبل فترة، دون إبداء أسباب واضحة ومحددة. الحالة المغربية مع الجزيرة هي نموذج لتصرف بعض الحكومات العربية مع وسائل الإعلام، والفراغ الذي ما زال قائما في فهم الظاهرة الإعلامية المتسارعة وأبعادها المختلفة في عصر الفضائيات والانترنت، وشيوع المعلومة ووصولها إلى القاصي والداني في الوقت نفسه وبالحجم ذاته وبالدقة عينها. إن فكرة تغطية الشمس وحجبها عن الأنظار في وضح النهار لم تعد ممكنة، ومن يتصور ذلك في أيامنا هذه فعليه أن يخجل من نفسه لأنه ببساطة شديدة يعيش في زمن غير زمننا، وبوعي متأخر جدا عن وعي حاضرنا، وبطريقة تفكير تجافي تقنيات عصر المعلومات الذي نعيش أول سنواته، لأن القادم في هذا الشأن أعظم. إن كثيرا من وسائل الإعلام العربية والأجنبية لها أجندات وأهداف خاصة، ولها مخططات وبرامج خفية وأخرى علنية، ولا ضيْر في ذلك أو لا مفرّ لنا من هذا الوضع على الأقل، فنحن في عالم مفتوح ومكشوف على بعضه البعض وصراع البقاء والسيطرة فيه صار باديا للعيان، وقد نشارك في ذلك بشكل أو بآخر، لأن بلداننا أعضاء في منتديات عالمية وإقليمية، وتسارع بعض حكوماتنا إلى عضوية هذه المنظمة أو تلك مع علمها السابق بأهدافها المشبوهة وأدوارها التي لا تخدم إلا مصالح الأقوياء، والأقوياء فقط. علينا أن ننظر إلى أوضاعنا وظروفنا الداخلية، وحصوننا الوطنية، وننتبه إلى الثغرات التي تظهر من هنا وهناك في بنيتنا الثقافية، ووعينا العام وذاكرتنا الجمعية، وولاء شبابنا وجيلنا الصاعد لبلاده وقيادته الصادقة وتراثه ومكتسبات عقود الاستقلال، وننظر في الوقت نفسه إلى مستوى معيشة شعوبنا، ومدى تناسب اقتصادياتنا وإمكانياتنا وثرواتنا مع أوضاعنا وحجم وشكل وطعم وسعر رغيف خبزنا. علينا أن نبني جبهتنا الداخلية ونقويها جيدا، فيكون الأمن والأمان كالهواء يتنفسه الجميع مهما اختلفت مشاربهم وأفكارهم ومهما جاهروا بهذا الرأي أو ذاك، ومهما اختلفوا مع صاحب الأمر والنهي أو اتفقوا معه، شرط أن لا يتجاوزوا المصلحة الوطنية العليا المتفق عليها، والثوابت العامة التي تقررها الأمة، لا تلك الثوابت أو المصالح التي تُقاس وتُخاط لكل مرحلة. علينا أن نبني بلداننا ونصل بها إلى الحد الأدنى، على الأقل، من المدنية والرقي والخدمات والرخاء الاقتصادي ووفرة الوظائف والمساكن والمواصلات والدخل الفردي المحترم والقدرة الشرائية المناسبة التي توفر الكرامة لكل مواطن وتحفظ ماء وجهه.μ علينا أن نسعى للوصول إلى الحد المقبول من الحكم الراشد والديمقراطية الحقيقية والسيادة الشعبية، لتختفي عندها مظاهر الفساد والإفساد والاختلاس والنهب والرشاوى، ويصبح المواطن مرفوع الرأس دائما، باسم الثغر صباح مساء، مرتاح البال وهو يدخل إدارات بلاده ويُقابل بكل احترام ويكمل معاملاته في سهولة ويسر. وعود على بدء...إذا كان المواطن في المملكة المغربية الشقيقة يدرك بكل يقين أن قوات الأمن لم تطلق النار على المواطنين في سيدي إيفني، ولم يحدث ذلك الأمر مطلقا، ولن يحدث ذلك مستقبلا بفعل الحزم الرسمي والوعي الشعبي والتلاحم والتراحم بين قوات الأمن وأبناء الشعب؛ فلن يضيره أبدا ما قالت الجزيرة، بل إن الجزيرة هي التي ستخسر مصداقيتها أمامه. أما إذا كان الأمر على العكس تماما، وهو ما لا نتمناه لأشقائنا المغاربة؛ فالعاقل الحكيم من عاد إلى نفسه فأصلح من شأنها، وانتبه إلى بيته فغيّر من جوهره وشكله؛ فالمسكن الزجاجي معرّضٌ أكثر من غيره للكسر أو الرشق بالحجارة. لن يخاف النار من ليس في بطنه تبن أو قش.. فلنتناسى الجزيرة وأخواتها ونغضّ الطرف عنهم.. دعوهم ينشرون ويذيعون ويعدون التقارير ويدبّجون إذا سمحت لهم أخلاقهم المهنية بذلك، فلن يصدقهم أحد، وإذا تحدث معارض عبر هذه القناة أو تلك، فلن يلتفت إليه أقل أبناء الشعب ذكاء وفطنة لأن الحقيقة ماثلة أمامه: رخاء اقتصادي، وأمن في الليل والنهار، ومشاركة فعلية في الحكم وصنع القرار. لنتركهم وما يفعلون ما دامت بلادنا بخير وفي خير وإلى مزيد من الخير، فسيتعبون يوما، ويا "جبل ما يهزّك ريح" على حد تعبير الراحل ياسر عرفات، ولنعلنها بملء أفواهنا "طزّ في الجزيرة وأخواتها"، قياسا على عبارة "طزّ في أمريكا" التي كان يرددها أحد الزعماء العرب.. ولهواة المفارقات اللغوية فإن كلمة "طز" تعني عند أشقائنا الأتراك ملح الطعام.