الشهداء يعودون دائما، تأبى الذاكرة إلا أن يظلوا خالدين، رغم أن الاستعمار قد اعتقد واهما أن النسيان سيطويهم إلى الأبد، بالأمس عاد البطل الكبير مصطفى بن بولعيد- وهو الحاضر أبدا- في مشهد زاخر بالدروس المفيدة، التي تؤكد في كل حين أن وحدتنا الوطنية ليست في خطر وأن شبابنا ليس بتلك الصورة القاتمة التي تروج هنا وهناك، في محاولة لإعطاء الانطباع بأن الذخيرة الحية للأمة، أي الشباب، قد فقدت الروح. المناسبة كانت الندوة الوطنية التكوينية للشباب التي نظمها الأفلان والتي تخللها عرض فيلم " مصطفى بن بولعيد" أمام أكثر من 300 شاب وشابة يمثلون كل الطيف الوطني، من إليزي إلى وهران، ومن عنابة إلى تيزي وزو، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فإذا هؤلاء الشباب وجها لوجه مع ذلك البطل الذي فدى الجزائر بحياته، كان رمزا لشباب بلاده، محبا لوطنه، مخلصا لدينه، مؤمنا بحرية شعبه، قلئدا سياسيا وعسكريا بامتياز، قوي الشخصية، صلب الإرادة، يتمتع بشجاعة كبيرة ويتحلى بصفات إنسانية نادرة. فضل مصطفى بن بولعيد الشهادة لتكتب له الحياة، وها هو حي بيننا، وكأنه يذكرنا دوما بأن الشعب الجزائري قد تمكن بفضل شجاعة أبنائه وتضحياتهم الجسام أن يتحرر من استعمار غاشم، أراد أن يسلبه حقه في الوجود وينزع عنه ذاكرته ليجرده من هويته. ووجدتني مشدوها، وكأني أكتشف هؤلاء الشباب أو أراجع ما رسخ في ذاكرتي من صور وأحاديث عن شبابنا الذي ضاع في المتاهات، وها أنا أراهم أمامي، أستمع إليهم، أتحسس صمتهم المهيب، أقرأ في عيونهم ذلك التحدي الذي تنبض به قلوبهم، وكأنهم يستحضرون، من خلال بطولات الشهيد مصطفى بن بولعيد، كل ما يجسد الإيمان بالوطن والتضحية من أجله. لم يكن " أسد الأوراس" غائبا عن هؤلاء الشباب، بدا قريبا منهم إلى درجة التوحد، إنه واحد منهم، من صلب شعبهم، لكنه كان متفردا في الحلم الذي يغرسه في نفوسهم، متميزا في ذلك التألق الذي يتوقون إليه، إنها سطوة البطولة وعنفوان الشهادة حين تتجلى في ذاك السخاء الأسطوري في التضحية من أجل الجزائر التي عشقها بن بولعيد فوهبها حياته بلا تردد ودون انتظار مقابل. ها هم الشباب يستحضرون من خلال الشهيد مصطفى بن بولعيد كم هو غال الحق في الوطن ، ذلك الحق الذي تم انتزاعه ببذل النفس والنفيس، و كم هو غال الحق في الكرامة الذي انتزع بالتضحيات من نظام استعماري عنصري، سلط على الشعب الجزائري كل أشكال التقتيل والإذلال والتحقير والتجهيل والإبادة. إنها الحقيقة البارزة التي لن تمحى من ذاكرة الأجيال، في الوقت الذي تبذل فيه محاولات حقيرة يراد بها تزوير التاريخ وضرب الوحدة الوطنية، وها هو بن بولعيد- الأسطورة ومن معه من الأبطال الأشاوس، يجددون الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه الأجيال، إنه قيمة الوحدة الوطنية، تلك التي تصدت لمحاولات زرع بذور الفرقة المتكررة التي طالما حاولها الاستعمار، تلك الوحدة التي تجلت طيلة الكفاح التحريري والتي تشكل الملك المشترك لكل الجزائريين. كم كان بن بولعيد رائعا- وهو الرائع أبدا- وهو يجسد الوحدة الوطنية في سلوكه، في حرصه على وحدة الشعب، في إصراره على أن الثورة التحريرية لا ينبغي أن تكون صنيع منطقة أو فئة اجتماعية، بل يجب أن تكون إنجاز شعب بأكمله. هؤلاء الشباب، الذين كانوا يتقمصون شخصية مصطفى بن بولعيد، لم تكن الوحدة الوطنية بالنسبة إليهم عبارة فارغة أو شعار عابر، بل هي دين في أعناقهم مستحق للشهداء وهي أقدس واجباتهم اليوم وغدا، وكأني بهم يجددون العهد مع بن بولعيد وبن مهيدي وعميروش ولطفي وسي الحواس وزيغود بأن الذود عنها هو الاعتراف بالوشيجة المتميزة التي تربط أبناء الجزائر، المرتكزة على هويتنا الوطنية، التي هي نتاج تفاعل مكونات ثلاثة، الأمازيغية و الإسلام و العروبة، هذه الهوية هي البوتقة التي تكمن فيها قوة الأمة الجامعة. التف الشباب حول الشهيد مصطفى بن بولعيد في جلسة حوارية تفاعلية، لم يكن فيها الشهيد منتميا إلى الأوراس حتى وهو ينتشي بنطق بعض الكلمات بالشاوية بل كان جزائريا حتى النخاع، وكذلك كان أولئك الشباب في تعلقهم بالشهيد بن بولعيد وبكل ما يرمز إليه، يعبرون عن جزائريتهم، هم القادمون من كل أرجاء الوطن، المنتمون إلى الجزائر حبا فيها وتعلقا بها واستعدادا للتضحية من أجلها. عاد الشهيد مصطفى بن بولعيد، وهو الذي يأبى أن يغيب، وتوحد معه الشباب اعتزازا وافتخارا وإجلالا لتضحيات جيل حرر البلاد من الهيمنة الاستعمارية وتعبيرا عن إرادة الشباب، ومن خلاله كل الشعب، في عدم التسامح مع من ينتهك وحدته الوطنية، التي هي قوته الحقيقية. كان رد الشباب صريحا واضحا بأن الوحدة الوطنية لا تتحمل المساومة وأن المساس بها من قريب أو بعيد هو خيانة عظمى، وكم كان صوتهم قويا وهم ينددون بتلك الصورة المزيفة والمغرضة التي تقدم الشعب الجزائري على شكل أغلبية عرقية ساحقة وأقلية عرقية مسحوقة، وما يزال صوت تلك الشابة الأمازيغية يسكنني وهي تقول: إن الأمازيغية ملك للأمة جمعاء، ولا مجال لكي يستعمله بعض المغرضين كورقة سياسية يلوح بها خارج الحدود، كما يفعل ذاك الذي لا يستحق أن نذكر اسمه، وما بالنا إذا كنا في حضرة " أسد الأوراس" وأسود الجزائر. " يظل المسؤول قويا حتى يطلب شيئا لنفسه.."