عندما تسلمتُ وزارة الإعلام في بداية القرن كان من التهاني التي وصلتني سطور من أستاذنا الكبير عبد الحميد مهري مما جاء فيها كلمات تقول بأن : »الإعلام ظلٌّ لعود«. والفاهم يفهم. وتذكرت ما حدث عندما نجحت الضربة الإسرائيلية الغادرة في 1967 وتمكنت من إلحاق الهزيمة الساحقة بالجيش المصري حيث راحت أصوات كثيرة »تمسح الموسى« فيمن لا يملكون قرار الحرب أو السلم، وتركزت الهجومات بشكل خاص على الأستاذ أحمد سعيد، وجعل اسمه رمزا للإعلام التهريجي والغوغائي، وأصبحت أكبر سبة توجه لإعلامي يناضل من أجل الدفاع عن القضايا العربية اتهامه بأنه من مدرسة أحمد سعيد. وواقع الأمر هنا أن فلول الردة العربية من أبناء مدرسة »الأرامكو« التي عانت الكثير من الدور التحريضي الذي قام به أحمد سعيد على الساحة العربية ضد ما كان يُسمّى آنذاك »الرجعية« انتهزت الفرصة للانتقام من الإعلامي الذي كان مدرسة في الأداء الإعلامي المتميز. والواقع أن كثيرين يتجاهلون عملية الشحن الفكري التي يعيشها بعض الإعلاميين، وترتبط بمنطق معين سار عليه نظام الحكم منذ عقود وعقود، لأن الإعلام ظل لعود. وإذا كان من حق أي نظام حكم بل ومن واجبه أن يزرع الاعتزاز بالانتماء الوطني، لكن المبالغة تؤدي إلى نمو شوفينية تخلق نوعا من البارانويا، فيحس المواطن بأن من حوله يكرهونه ولا يريدون به أو له خيرا. ويحدث هذا بوجه خاص عندما يختار النظام اتجاهات معينة تتناقض مع منطق التاريخ أو مع الإرادة الحقيقية للوطنيين، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك من بينها رفعُ نظام الرئيس عبد الكريم قاسم للافتة الوطنية العراقية في مواجهة التيار القومي الذي كان يرمز له في نهاية الخمسينيات الرئيس جمال عبد الناصر، وابتكر الشيوعيون في العراق لقب »الرئيس الأوحد« لقاسم، الذي كان صوت العرب يسميه »قاسم العراق«. غير أن أكثر الأمثلة تأثيرا على مسيرة الوطن العربي ما قام به الرئيس المصري أنور السادات بعد أن اختار طريق »كامب دافيد«، مبتعدا بذلك عن السرب العربي بتأثير »هنري كيسنجر«. آنذاك تداعى العرب، بدرجات متفاوتة من الحدة، لمواجهة التصرف المصري، وكان موقف الرئيس بو مدين الحازم من أكثر المواقف التي أثارت الرئيس المصري، وأحس السادات بأن ذلك قد يؤثر على التزام الشعب المصري بالنهج الذي اختاره، ومن هنا كلفت مجموعات من الإعلاميين المصريين بنشر الادعاءات التي تقول بأن مصر حاربت وحدها وتحملت تضحيات هائلة من أجل القضية الفلسطينية، ومن حقها اليوم أن تنعم بالسلام والاستقرار. ورغم أن في هذا القول حجم هام من الصحة إلا أن المبالغة في ترديده دفعت مثقفين مصريين شرفاء إلى القول بأن هذا يطمس التضحيات الحقيقية التي قدمتها مصر أساسا من أجل حماية أمنها القومي ولتدعيم الدور القومي الذي التزمت به، بالإضافة إلى أنها تخلق في مصر جوا عدائيا تجاه محيطها الطبيعي وضد عمقها الاستراتيجي. وكان في طليعة من تبنوا هذا الطرح الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي قال وما زال يردد بأن الشعب المصري أذكى من أن يقبل التطبيع مع إسرائيل، وهو ما ثبت عبر كل السنوات الماضية، وازداد وضوحا إثر الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية والذي اضطر النظام المصري إلى التراجع النسبي فيما يتعلق بفتح معبر رفح، لكن أصواتا إعلامية مصرية اندفعت للتشكيك في خلفيات الموقف التركي، الذي انتزع زعامة الساحة من كل القيادات العربية، وكان واضحا أن تعليمات أعطيت لمواجهة وضعية التعاطف الشعبي في مصر مع المقاومة الفلسطينية وموجة الإعجاب المتزايد برئيس الوزراء التركي أردوغان، وكان ذلك كله جزءا من تداعيات الحصار على غزة، الذي عرفته السنوات الماضية. وكانت تصرفات بعض الإعلاميين مؤسفة، فقد بثت فضائية مصرية مقاطع من خطاب ألقاه الرئيس السادات في السبعينيات عن الانتماء العربي لمصر، استعمل فيه حجة قدمت له من بعض مستشاريه، من أبسط ما يمكن أن يقال عنها أنها كانت تخاريف مضحكة، وكانت إعادة بثها اليوم وبعد نحو أربعين سنة تأكيدا لدور »المهماز« في كل ما يقال ويبث ويذاع. قال السادات أمام تصفيقات حارة من أعضاء مجلس الشعب بأن: »العرب هم أبناء هاجر زوجُ إبراهيم، وهاجر مصرية، وبالتالي فإن العرب هم الذين ينتمون لمصر وليس مصر هي التي تنتمي إلى العرب«. ولم يقف أحد ليقول له بأن العرب والمسلمين بشكل عام يُنسبون إلى الأب لا إلى الأم، بعكس اليهود الذين يقولون بأن زوج إبراهيم الأصلية هي أم اليهود، سارة، وكانت امرأة حرة، في حين أن أم إسماعيل كانت أمَة (بفتح الميم). ولم يحاول أحد أن يشرح للرئيس بأن من العرب يهودا ومسيحيين، وهؤلاء ومنهم المسيح نفسه هم يهودٌ أصلا، وهو ما يعني أنهم أبناء سارة، والسكان الأصليون في فلسطين كانوا يهودا اعتنق بعضهم المسيحية ثم كان من هؤلاء وأولئك من اعتنق الإسلام، أي أن هناك مسلمين من أبناء سارة، وبالتالي فكل العرب ليسوا أبناء هاجر، وهو ما يُسقط مقولة السادات. ولم يكن الإعلام يملك إلا القيام بدور العبد المأمور، فكان مكبر الصوت الذي يخنق كل الأصوات، ونسي البعض أن الشعوب قد تخدع مرحليا ولكنها تكتشف الحقيقة إن آجلا وإن عاجلا، وهو ما حدث بالفعل ليؤكد أن مدرسة الإعلام الساداتي، التي بدأت بموسى صبري واستمرت بأنيس منصور ووصلت إلى عمرو دياب، هي مدرسة فاشلة، ومن أبرز معالم فشلها فضيحة التغطية الإعلامية للمباراة الكروية مع الجزائر، والتي كانت أكبر إساءة لمصر. غير أن هناك قضية كنت طالبت أن تتولى المصالح المختصة في كل من مصر والجزائر دراستها واستنتاج الدروس والعبر منها وهي ما حدث من تخريب لبعض المنشآت المصرية في الجزائر عشية مباراة القاهرة في 14 نوفمبر 2006. وأرجو أن أذكر هنا بأن ما حدث من تجاوزات فاجأت المصالح الأمنية الجزائرية واستبقت حذرهم حدث بين التاسعة مساء ومنتصف الليل تقريبا، ومن هنا فإن اتهام الصحافة الجزائرية بأنها هي التي أشعلت نار الفتنة هو ظلم مؤكد لصحفنا، وبدون أن يكون هذا القول دفاعا عن أحد أو عن شيء إلا الحقيقة. والذي حدث يومها وتابعته أنا شخصيا هو توزيع حجم هائل من رسائل الهاتف المحمول التي شملت لقطات متلفزة كانت كلها تتحدث عن اعتداءات للمشجعين المصريين على المشجعين الجزائريين، والسيدات منهم بوجه خاص، وانطلقت إشاعات عن حدوث قتلى بين الجزائريين، وكل ذلك أشعل غضب الجماهير في الجزائر. ولقد شاهدت شخصيا إحدى رسائل الموبايل المصورة التي تناولت اعتداء جنسيا على شاب في أحد أقسام الشرطة المصرية، وكانت لقطات تثير الغضب إلى حد الجنون وتستثير الكره إلى حد الحقد الدموي. وقلت يومها أن علينا أن نبحث عن مصدر تلك الرسائل وعن أسلوب بثها في البلدين، ولكن أحدا لم يتوقف عند ما طالبت به، لأن إرادة تخريب العلاقات بين الجزائر ومصر كانت طاغية، وإلى درجة أنها تمكنت من تلجيم كثيرين حاولوا إيقاف الانزلاق نحو الهاوية. وعبر أكثر من شهرين حاولت تقديم دراسة وافية للعلاقات بين البلدين موضحا الأخطاء التي تم ارتكابها وكانت هي الأساس في وضعية الكراهية التي عرفتها العلاقات منذ اتفاقية كامب دافيد التي عقدها الرئيس المصري أنور السادات مع العدو الصهيوني في نهاية السبعينيات، وكان المثير للدهشة أن ما نشر أساسا في صحيفتين جزائريتين مرّ بدون أي تعليق جادّ من جل الذين يكتبون من اليمين ومن اليسار على حدّ سواء، ولدرجة أعطتني شعورا غامضا بأن هناك من طلب منهم التعتيم تماما على ما كتب، وهو شعورا أعتقد أن له ما يبرره. وتتأكد كلمات عبد الحميد مهري. * - كان للموقف الرزين الذي اتخذته الجزائر خلال أزمة الكرة مع مصر، وبغض النظر عن تجاوزات ظرفية كان لها ما يبررها، دوره في وضع الأزمة في إطارها الصحيح، ونجد أن الاتجاه السائد اليوم في مستوى المواطنين المصريين هو إدانة قيادات اتحاد الكرة المصري ومن وقف وراءه أو تستر على أدائه الرديء لأسباب سياسية أو غير سياسية. والذين يتابعون تعليقات »الفيس بوك« المتعاطفة مع الجزائر والتي كانت بدأت على استحياء منذ عدة شهور وتزايدت مع قرارات الفيفا سيجدون كم كنتُ على حق في تحليلي للقضية كلها وفي تعاملي معها، وهو ما جرّ عليّ تعليقات كثيرة غاضبة أعطت لنفسها حق توزيع صكوك الغفران وأوسمة الوطنية. * - بعد أربعة سنوات من الحصار المفروض على غزة والذي وضع القطاع في وضعية حجر صحي كأنه ذلك الذي يفرض على مناطق الطاعون قال الأمين العام لتكية الدول العربية بأنه سيقوم بزيارة للقطاع، وأرسل بعض مساعديه لإعداد الزيارة، مما دفع البعض إلى القول بأنه سيادته يريد إرسال رسالة إلى القيادات الفلسطينية ....حتى لا »يحرجه« أحد. وهناك مثل مصري رائع يقول : إللي اختشوا (حشموا) ماتوا. * - رغم أن وزير الخارجية الفرنسي معروف بالتهريج فلم أستطع أن أتجاهل ما قاله من أن السلطات المصرية عاتبت فرنسا على محاولتها الاتصال مباشرة بحركة حماس في غزة ، وهو ما نفاه على الفور ناطق باسم الخارجية المصرية، الذي قال بأن فرنسا لم تتقدم بمشروع محدد لفك الحصار على غزة. ولأن الدبلوماسية هي فن صياغة التعليقات تساءلت عن سر وجود كلمة »محدد« في التعليق.