تلبية للطلب الذي تقدم به رئيس حزب جبهة المستقبل عبد العزيز بلعيد إلى وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي رمطان لعمامرة وبتكليف منه، ألقى مصطفى بوطوره سفير مستشار بديوان الوزارة محاضرة بعنوان دور الدبلوماسية الجزائرية في حل الأزمات الإقليمية والدولية وحماية الوطن من تداعياتها السلبية. استهل المحاضر مداخلته بالإشارة إلى أهمية التفرقة بين مصطلحي الدبلوماسية والسياسة الخارجية لأن البعض يستخدم هذين المصطلحين وكأنهما مرادفين لبعضهما وهذا الكلام غير دقيق لأن الدبلوماسية هي إحدى أهم وسائل تنفيذ السياسية الخارجية لهذا البلد أو ذاك، بينما السياسة الخارجية لأي دولة هي تعبير عن الاتجاهات العامة التي تتبناها في علاقاتها مع البيئة الخارجية أي المجتمع الدولي من منظور مصالحها الوطنية وأهدافها المحددة والأدوار التي تتصورها لنفسها بما تسمح به إمكاناتها في محيطها الإقليمي والدولي. وأضاف المحاضر يقول إن الدبلوماسية ليست سلوكا عفويا أو يعتمد على المزاج أو الظرفية وإنما هي محكومة بمبادئ عامة و من أراد أن يقيم أداءها بصورة موضوعية فليقيم الأداء استنادا إلى مدى انسجامها مع مبادئ السياسة الخارجية وبمعنى آخر هل اقترن القول بالعمل وأوفى بمضمون المبدأ ؟ ولكل دولة منطلقات ومبادئ عامة تحكم سياستها الخارجية تحددها عادة دساتيرها ووثائقها الرسمية. وفي معرض حديثه عن مبادئ ومرجعيات ومنطلقات سياسة الجزائر الخارجية، قال الأستاذ بوطوره إن مرجعيات الجزائر التي تحدد رسم سياستها العامة والخارجية بصورة خاصة هي مجمل البيانات والمواثيق والدساتير من بيان أول نوفمبر 1954 مرورا بمقررات مؤتمر الصومام أوت 1956، مؤتمر طرابلس جوان 1962، ميثاق الجزائر 1964، بيان 19 جوان 1965، الميثاق الوطني 1976 ونسخته المعدلة عام 1986، ومختلف الدساتير من 1963 حتى دستور 2016 و مرورا بدستور 1976 ودستور 1996 ونسخته المعدلة عام 2008، والدارس لهذه الوثائق المرجعية يصل إلى خلاصة مفادها جملة من المبادئ والمحددات لسياسة الجزائر الخارجية، يمكن ذكر أهمها في الآتي: * حق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال، * حق الأمم والشعوب في السيطرة على ثرواتها الوطنية، * مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، * رفض استخدام القوة أو التهديد بها لحل الأزمات والنزاعات الدولية واعتماد الحلول السياسية والطرق الدبلوماسية، * التأكيد على أهمية التعاون الدولي بكل أشكاله بصورة أكثر عدلا وتكافؤا. وتمحورت المحاضرة حول تعاطي دبلوماسية الجزائر مع أزمات دول الجوار وغيرها لحماية الوطن من تداعياتها السلبية، انطلاقا من مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحلول السياسية لحل هذه الأزمات لأن الجزائر زيادة على تمسكها بما جاء في المواثيق الدولية بخصوص أهمية الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول فإن هذا المبدأ يعتبر ركنا أساسيا في سياستها الخارجية، وأن اعتماد هذا المبدأ في سياسة الجزائر الدولة المستقلة لم يأت من فراغ وإنما يعود إلى ميراث الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر المجيدة، حيث ألزم قادة الثورة أنفسهم بعدم التدخل في شؤون الآخرين وبالتالي عدم السماح للدول أو المنظمات أو غيرها بالتدخل في شؤون الثورة ولم تكن الأمور سهلة، لكن قيادة الثورة تمكنت برؤية متبصرة من التوفيق بين المعادلات الصعبة وجعل الثورة في منأى عن تدخل الآخرين في شؤونها أو إقحام نفسها في شؤونهم. وأوضح المحاضر الدور المهم، الذي لعبته الجزائر المستقلة في إصدار توصية الأممالمتحدة المتعلقة بأهمية عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وذلك في دورتها ال 29 لعام 1974، هذه الدورة التي ترأسها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وقتها وزيرا للشؤون الخارجية في حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله وأدار جلساتها بحكمة واقتدار ميزتها عن دورات الجمعية العامة الأخرى، حيث تم خلالها أيضا تمكين ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من المشاركة فيها وإلقاء كلمته المشهورة أمامها وكذا اتخاذ قرار لا يقل أهمية وهو تجميد عضوية نظام جنوب إفريقيا العنصري في الأممالمتحدة. * تأكيد على أن تمسك الجزائر بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ليس من باب الترف الفكري، وإنما لاعتبارات مهمة كونه يضمن الحماية من الضغوطات الخارجية بكل صورها السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها وإدراكها بوعي تام لنتائج التدخل الخارجي الكارثية ليس على مستوى البلد المعني بالأزمة بل لانعكاساته الخطيرة على الدول المجاورة وعلى سبيل المثال تداعيات ما جرى في مالي، ليبيا وغيرهما على بلادنا. * من جهة أخرى أوضح المحاضر إن عدم التدخل في الشؤون الداخلية لا يعني الوقوف موقف المتفرج أو اللامبالاة إزاء ما جرى و يجري في فضائنا الجيو سياسي بدليل أن الجزائر الواعية بمصالحها الوطنية، والحافظة لالتزاماتها الدولية تتحرك في كل الاتجاهات وتعاملت ولا تزال مع الأزمات القائمة في جوارها برؤية استشرافية للمساعدة على إيجاد الحلول النهائية، وهو ما ينعكس ايجابيا على أمن بلادنا والحفاظ على مصالحها الوطنية. * التشديد على أن أغلب القوى الدولية التي سبق لها وأن غلبت لغة السلاح واستخدام القوة لحسابات تخصها (في مالي وليبيا على سبيل المثال) قد اعترفت بصحة ومصداقية المقاربة الجزائرية وتعاطي دبلوماسيتها مع الأزمات الدولية باعتماد الحلول السياسية كخيار وحيد، وتأكد لها أهمية دور الجزائر في معالجة الكثير من القضايا مثل الأزمات التي تمر بها بعض الدول المجاورة ومن هذا المنظور تعاملت الدبلوماسية الجزائرية مع أزمات دول الجوار ( مالي، ليبيا، تونس على سبيل المثال وكذلك الأمر بالنسبة للازمات الحاصلة في المشرق العربي ( سوريا، اليمن)، وهذا ما أشار له المحاضر، من خلال الاستدلال بما يلي: - بخصوص الأزمة في مالي قامت الدبلوماسية الجزائرية بدور مهم للغاية في قيادة فريق الوساطة الدولية في هذا الملف الشائك لمدة حوالي العام ونصف ( جانفي 2014- أفريل 2015) ، الذي توج بالتوقيع على ميثاق السلم والمصالحة مع آلية للمتابعة و التنفيذ ترأسها الجزائر أيضا وهي تواصل مهمتها في هذا المجال بدون كلل أو ملل لتنفيذ مضمون الميثاق مع الاستمرار في دعوة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية لتقديم كل المساعدة في هذا المجال. - في ما يتصل بالأزمة الليبية تعاملت الجزائر معها انطلاقا من مبادئ سياستها الخارجية وخبرتها العملية في حل الأزمات الدولية مثل أزمة مالي وغبرها من الأزمات وتجربتها الوطنية لإطفاء نار الفتنة وإرساء المصالحة الوطنية و خاصة منذ تعيين الأممالمتحدة لمبعوثها لهذا البلد السيد برنادينو ليون في أوت 2014، وقامت بجهود معتبرة، استضافة العديد من اللقاءات التي ضمت كل الأطراف الليبية التي اقتنعت بصحة المقاربة الجزائرية بعد أن كان بعضها يعتقد أن الجزائر قد وقفت إلى جانب طرف بعينه، وفي إطار مكمل لعبت الجزائر أيضا دورا مهما على مستوى اجتماعات دول الجوار وكذلك الاجتماعات الدولية، من منطلق المحافظة على وحدة ليبيا والوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف المعنية والتأكيد على أهمية تشكيل حكومة توافق وطني وهو ما تم، وهي تواصل العمل لدعم هذه الحكومة قولا وعملا وقد كان الوزير عبد القادر مساهل أول وزير عربي يزور طرابلس بعد انتقال حكومة التوافق إليها من تونس في المدة الأخيرة . وبالرؤية ذاتها بذلت الجزائر جهودا أخرى حيث رافقت التحول في تونس بتقديم كل أنواع المساعدات المطلوبة من النصيحة إلى الدعم المالي إلى التنسيق الأمني المباشر وغيره. وفي الخلاصة، ذكر المتحدث بأن الجزائر قد تحركت وما تزال لمعالجة الأزمات المشار إليها انطلاقا من: * المحافظة على الوحدة الوطنية للبلد المعني، * الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، * عدم إقصاء أي طرف باستثناء من صدرت في حقهم قرارات من الأممالمتحدة صنفتهم في خانة الإرهاب، * أهمية التفاهم والتوافق بين كل الفرقاء سواء في الحكم أو المعارضة وإصلاح ذات البين وترك الشعب يقرر ما يراه مناسبا لأن أي تغيير في هذا البلد أو ذاك هو من صلاحيات الشعب المعني وفقا لمصالحه وأوضاعه وظروفه، * أهمية تكفل دول الإقليم المعنية بمعالجة أزماتها لأنها أدرى بها و بتعقيداتها من غيرها، * تأكيد الجزائر من هذه الرؤية الواضحة في الوقت نفسه على ضرورة التعاون مع القوى الدولية على أساس المصالح المشتركة وبالقدر ذاته ترفض التدخل في شؤون الدول الأخرى تحت أي ذريعة. - التشديد على أنه بالمنطق ذاته والمبدأ نفسه أي عدم التدخل في الشؤون الداخلية ودون الكيل بمكيالين، كما يفعل البعض تعاملت دبلوماسية الجزائر مع ما جرى ويجري في المشرق العربي من أزمات ( سوريا، اليمن )، أما قضية فلسطين والصحراء الغربية فهما بندين دائمين في أجندة الدبلوماسية الجزائرية، استنادا إلى حق الشعوب في تقرير المصير. * التأكيد على أن التوفيق بين المصلحة الوطنية ومبادئ السياسة الخارجية والضغوطات الدولية في عالم مضطرب ليس بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى خبرة كبيرة وحكمة متبصرة جسدها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في توجيه الدبلوماسية للتعامل مع التحولات والأزمات المعقدة التي تعرفها منطقتنا والعالم والتي تعود إلى جملة مركبة من الأسباب الداخلية والأبعاد الإقليمية والدولية ومن هذا المنطلق فقد عملت الجزائر وتعمل لحماية سيادتها و تكريس استقرارها في محيط ملتهب وهو ما يتطلب إمكانات كبيرة للقيام بما يلزم لتأمين حدودها وسلامة ترابها والسعي لإعادة الأمن والاستقرار في دول الجوار المتأزمة. وفي الأخير شدد السفير بوطوره على أن الأيام قد أثبتت صحة مقاربة الجزائر وتحذيرها المسبق من مغبة التدخلات العسكرية الأجنبية، وما ينجر عنها من كوارث وإرهاب وانتشار مذهل للأسلحة والمخدرات والجرائم العابرة للقارات، وهو أمر أصبح ظاهرا للجميع الآن، لكن صانع القرار في الجزائر كان قد أدركه واستشرف مخاطره في وقت مبكر وحذر من تداعياته، وهذا ما اعترف به المجتمع الدولي الذي أشاد بدور الجزائر في دعم الاستقرار والأمن الإقليميين أثناء الجمعية العامة للأمم المتحدة (2014). للإشارة، فقد لقيت المحاضرة اهتماما من طرف المدعوين من الإطارات والأكاديميين والإعلاميين، من خلال مداخلات عديدة ومتنوعة، قام السفير بوطوره بالتعقيب عليها، لتفصيل بعض القضايا، التي تركزت كلها على دور الجزائر الهام والمحوري ومساهماتها المقدرة دوليا في حل الأزمات الدولية وإرساء الأمن والاستقرار.