قبل واحد وعشرين سنة، عرفت الممارسة الإعلامية في الجزائر تحولا عميقا ونوعيا، إثر التغيير الذي طرأ على منظومة الحكم بعد أحداث أكتوبر 1988، فقد أدى الانفتاح السياسي والانتقال من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي التعددي، إلى بروز إعلام مستقل تعددي في الساحة، وقد كان قانون الإعلام 90/07 الآلية القانونية الضامنة لاستقلالية الإعلام. اليوم يحتدم النقاش حول تقييم الممارسة الإعلامية على ضوء قانون الإعلام 1990 فهل ما زال يشكل ضامنا لحرية الإعلام واستقلاليته؟. على خلاف السنوات العشرين الماضية، تحيي الأسرة الإعلامية هذا العام اليوم العالمي لحرية التعبير المصادف للثالث ماي من كل سنة، على وقع نقاشات حادة بين المهنيين حول تقييم العقدين الماضيين من الممارسة الإعلامية الميدانية ومدى صلاحية التشريعات ومنها قانون الإعلام 90/07 لمواكبة التغييرات الحاصلة في المجتمع عموما والمهنة على وجه الخصوص، وقد وجدت هذه النقاشات في إعلان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة عن إصلاحات سياسية تشمل مراجعة قانون الإعلام والتشريعات المتعلقة بالمهنة ومنها على وجه الخصوص رفع التجريم عن أخطاء الصحفيين التي تضمنها قانون العقوبات لعام 2001، فرصة سانحة للتطلع إلى ممارسة إعلامية حرة ومهنية ومحترفة. ومن هذا المنطلق يعتقد مراقبون أن رسم ملامح الخارطة التي يتعين على الجزائر الاستناد إليها مستقبلا، الوقوف عند الظروف التي صاحبت الممارسة الإعلامية في الجزائر منذ إقرار التعددية الإعلامية مطلع تسعينيات القرن الماضي، فقد جاء إقرار التعددية الإعلامية بعد أحداث أكتوبر 1988 والتي شكلت منعرجا حاسما في مسيرة النظام السياسي، حيث تم الانتقال من النظام الشمولي الأحادي إلى نظام ديمقراطي تعددي جسده دستور 23 فيفري 1989، في حين شكل قانون الإعلام 90/07 أرضية صلبة لتكريس الإعلام المستقل والحر بعيد عن أعين الرقابة التي ميزت النظام الأحادي، فقد تحرر الصحفيين وبرزت عشرات المنشورات من جرائد يومية وأسبوعية ودوريات، وتحررت المبادرات المهنية في ظل ازدهار الرأي والرأي الآخر، ونفس الشيء عرفه التليفزيون الجزائري الذي أصبح بموجب القانون المذكور، ذا طابع عمومي وليس حكومي، وتمكن من استقطاب ملايين الجزائريين للنقاشات الهادفة التي تهم مستقبل البلد سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ويعترف المهنيون من أبناء القطاع أن المشهد الإعلامي آنذاك كان نقلة نوعية ميزت الجزائر عن بلدان العالم الثالث. غير أن هذه الطفرة، لم تعمر طويلا، فقد أدى انزلاق الأوضاع نحو العنف المسلح وتعطيل العمل بالدستور وما صاحبه من حل للمجلس الأعلى للإعلام، وتقييد حركة النشر جراء المخاطر الإرهابية التي أضحت تهدد أركان الدولة والمجتمع، ثم موجة الاغتيالات التي استهدفت الصحفيين والمثقفين، إلى حدوث انتكاسة في مسيرة الإعلام المستقل في الجزائر، ورغم المقاومة السلمية والصمود الذي أبداه رجال ونساء المهنة من أجل الدفاع عن الوطن أولا والمهنة ثانيا، إلا أن الفاتورة كانت مكلفة كثيرا، فقد خسرت المهنة الكثير والكثير، لكن الخسارة التي ما تزال تلاحقها إلى يومنا هذا هو استغلال الظروف التي مرت بها البلاد من قبل لوبيات المال والمتطفلين على القطاع من أجل دخول المهنة وتحويل رسالتها النبيلة إلى تجارة مربحة، مستغليين في ذلك احتكار الدولة للإشهار، وحظرها لاعتماد عناوين إعلامية، فأضحت »البزنسة« في منح الاعتمادات والتعدي على حقوق الصحفيين، ممارسات يومية تكاد تكون قاعدة في العمل الإعلامي، وفي هذا المستوى، لا غرابة أن تشهد العلاقة بين الصحافة والسلطة شدا وجذبا وصلت إلى حد »العداوة« أحيانا خاصة في ظل إعادة الحكومات المتعاقبة »تأميم الإعلام العمومي« وتجريم بعض الكتابات الصحفية، وترك الصحافة المكتوبة للعبث من قبل اللوبيات، علاوة عن التزامها قاعدة الصمت، فقد وجد المهنيون أنفسهم في العقدين الماضيين أمام حكومات لا تتكلم، حكومات تعتمد الصمت مبدأ في تسيير الشأن العام، فكانت هناك انحرافات، وصاحبتها عقوبات. اليوم، تستعد الحكومة لمراجعة التشريعات الخاصة بالإعلام، ضمن سياسة إصلاحات اعتمدها الرئيس بوتفليقة، فماذا يرى المهنيون وكيف تكون الإصلاحات؟. إلى حد الآن لم يكشف وزير الاتصال ناصر مهل، عن فحوى الإصلاحات المرتقبة في القطاع، فباستثناء تأكيده على إشراك الصحفيين والناشرين في عملية المراجعة إلا أن الحكومة لم تعلن عن تصورها للإصلاحات، مما جعل النقاش غير مؤطر إلى حد الساعة بين المهنيين، غير أن الغالبية العظمى من أبناء المهنة يتمسكون بضرورة الإبقاء على قانون الإعلام 1990 باعتباره الأرضية الصلبة الضامنة لحرية التعبير والنشر والإشهار أيضا، فالقانون حسب الأخصائيين والمهنيين يمثل العمود الفقري للممارسة الإعلامية المستقلة والاحترافية، ومراجعته يجب ألا تمس بروحه وجوهره بل تكييفه فقط مع التطورات التي شهدتها الساحة الإعلامية وطنيا ودوليا خلال العشرين سنة الماضية، فما هو المطلوب إذن؟. يقول أساتذة مختصون وصحفيون ومنهم نقابات نشطة، سواء في أحاديثهم الجانبية أو في مواقع التواصل الاجتماعي، أن المطلوب هو تفعيل الآليات التي جاء بها قانون الإعلام، كالمجلس الأعلى للإعلام ومجلس أخلاقيات المهنة، ومجلس السمعي البصري، وإصدار البطاقة المهنية الوطنية وفتح التراخيص أمام حركة النشر وفق دفاتر شروط محددة، بالإضافة إلى الاهتمام بالوضعية السوسيومهنية للصحفيين وخلق معاهد للرسكلة وحدها الكفيلة بتطهير المهنة وإعادتها إلى أبنائها، ومنه إلى رسالتها النبيلة وخدمتها العمومية. ويبقى المحيط السياسي والاجتماعي السائد أحد العوامل الفاعلة في الارتقاء بالممارسة الإعلامية.