زرت القرية قبل سنتين، فلاحظت أن معظم مجالسها لا تخلو من الحديث عن الصينيين الذين يشرفون على الطريق السيار شرق غرب، وهي أحاديث تتجنب الإشارة إلى التزام القوم بالوقت، وبإتقان العمل، وتثمين الجهد، وتخوض في سخرية واندهاش عميقين في كونهم يأكلون الحمير والبغال والقطط والكلاب، وكل ما يدبّ على الأرض، فقلت لهم: يا قومي الأعزاء.. ألستم تملكون أرضا تربتها من ذهب لستم مضطرين لأن تحفروا فيها آبارا لأن الماء يجري فوقها ينابيعَ وسواقيَ على مدار الفصول؟، قالوا: نعم، قلت: فلماذا إذن تشترون خضركم وفواكهكم ولحومكم بيضاءَ وحمراءَ من المدينة؟، بل إنكم تشترون حتى الدبشة والبصل من هناك، وهي قادرة على أن تنبت حتى وهي في القفة، هل تظنون أن هؤلاء الذين يأكلون الدواب يفعلون ذلك؟، علما أنهم يشكّلون من حيث عددهم ثلث سكان الدنيا، مع ذلك فهم مكتفون ذاتيا مع مراتب عالمية أولى في التصدير، أتدرون لماذا؟، لأن كل واحد منهم يعمل بقاعدة ذهبية تقول: أنا أملك يدين.. واحدة للاستهلاك الذاتي، والأخرى للتصدير، لذلك فهم لا يحتاجون أبدا مهما زاد عددهم، فمن الأفضل في رأيكم مع هذا الواقع: آكل الخروف أم آكل الحمار؟. وكنت مرة أتغدى في مطعم شعبي في شارع العربي بن مهيدي بالجزائر العاصمة، فأقلقني رب المطعم بصوته العالي والبصاق يتطاير من فمه متحدثا عن الحكومة بأبشع الأوصاف قائلا إنها تأكل لحم الشعب، وتشرب دمه، ولا تعرف الرحمة وهي تضع مخططاتها الاقتصادية، وسياساتها الاجتماعية، فوضعت الملعقة وقلت له: اسمع يا الحاج.. ما كنت لأتحدث معك لو لم تشركنا في حديثك، لكنني أقول لك إنه لا يحق لك أن تتحدث عن قسوة الحكومة وفسادها، ردّ مندهشا: لماذا.. هل أنت من التحالف الرئاسي؟، قلت: لو كنت من التحالف الرئاسي لما أكلت في مطعمك هذا، لكنني لا أحب التشدق والتظاهر بالصلاح، قال: كيف؟، قلت: أنت نفسك لا تعرف الرحمة في تعاملك مع هؤلاء الشباب الذين يعملون عندك، أجبني بصراحة، هل هم مؤمَّنون، قال: لا، قلت: كم مدخولك من مطعمك هذا في اليوم؟، قال مترددا: عشرة آلاف دينار صافية، قلت: كم تدفع للواحد منهم في الشهر؟، قال: 12 ألف دينار، قلت: كم ساعة يعملون في اليوم: قال: من السابعة صباحا، إلى العاشرة ليلا، قلت: أرأيت؟.. لا يحق لك أن تتحدث عن فساد الحكومة، وإني أقسم بالله العظيم إنك لن ترى ديناري بعد اليوم. هذا وقد كنت أدردش في الفايسبوك مع شاب جزائري يعمل في شركة بترولية غربية اسمه تيجاني محرز، فطلبت منه أن يصف لي واقع العمل مع هؤلاء، فكتب لي ما يلي: إنها الساعة الواحدة زوالا الآن، وأنا في مكتبي تأخذني الدهشة والاستغراب أمام جملة من المواقف التي عشتها طوال السنوات الخمس الماضية، والتي قضيتها عاملا في شركة بترولية أجنبية في الصحراء الجزائرية، سنوات خمس أتاحت لي الاحتكاك بالكثير من الأجانب الأوربيين والأمريكيين، وقد كان لهذه التجربة عميق الأثر في نظرتي إليهم، وإنني أعترف أنها كانت قاصرة و ضيقة إلى حد بعيد، فليس من رأى كمن سمع، إذ أن هؤلاء الذين ننعتهم نحن المؤمنين بالكفر، والفجور، ونلصق بهم كل صفات الرذيلة يفوقوننا في التفاني في العمل، إذ العمل عندهم سلوك وليس شعارا أجوف: تشجيع الأشخاص ذوي الكفاءة العالية حسن التسيير، وتقييم الموارد البشرية تقييما حقيقيا لا مكان فيه لنزعة عاطفية أو قبلية أو طائفية التعامل مع المشاكل بحزم لكن بهدوء تام عدم التظاهر الاستماع إلى انشغالات العامل مهما كانت صغيرة اعتماد آليات فعالة لبعث روح التنافس تثمين الجهد الالتزام بتوقيت الدفع الحرص على سلامة العمال، وهنا دعوني أضرب لكم مثالا حيا: لدينا نظام يسمى نظام قف، ويهدف إلى جعل الجميع معنييين بقوانين الأمن والسلامة نظرا لخطورة العمل في حقول الغاز، وهو يعتمد على مراقبة كل عامل لغيره أثناء تأدية مهمته، وعند ملاحظته أي وضع غير متلائم مع قواعد الأمن والسلامة يتوجه إليه وينبهه إلى الخطورة الثابتة أو المحتملة، بل إنه بإمكانه أن يوقف ذلك العمل مؤقتا، وبعدها يحرر بطاقة يصف فيها العملية دون ذكر للأشخاص، ويحصل بموجب ذلك على مكافئة مالية. هذا مثال بسيط على طريقتهم في جعل الجميع ملتزمين، ويقظين، وفاعلين، أزيكم أمرا آخر جديرا بالإشارة إليه، ويتعلق بدورات التكوين والتعليم بطريقة علمية لا محاباة فيها: الوضوح عدم التلاعب بالعاملين النزاهة عدم الخوض في المساءل الجانبية التركيز على الجانب العملي والإنساني، كل ذلك سلوك عاد بالنسبة إليهم، أما نحن فشعارات وفقط ، حتى الذين يتشدقون بالمبادئ الإسلامية، ويحاولون تسويق صورتهم كمسلمين، فهم وهذه شهادة أمام الله أشد الناس جشعا، وتملقا، ونفاقا. أخيرا أقول إن العقد مع هذه الشركة يشرف على نهايته شهر أكتوبر القادم فهم سيرحلون، لا أقول إن هؤلاء ملائكة أو هم من طينة أخرى من البشر لكنهم عمليون، المبدأ عندهم هو الربح لكنهم وجدوا الميكانزمات الحقيقية الكفيلة بضمان ذلك للجميع.