الجنازة الرئاسية التاريخية المهيبة التي خصصت لأول رئيس للجزائر المستقلة، حملت رسائل كثيرة لكل من يريد التمعن جيدا في الحدث وفي كل ما أحيط به من بروتوكولات أعطت للرجل قيمته الحقيقية، وأعادت له جزء مما يستحق في بلد أفنى كل حياته في خدمته والدفاع عن سيادته وحريته، وهذه واحدة تحسب أيضا للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أعاد الاعتبار للرجل حيا قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، فجسد معاني تصالح الجزائريين مع أنفسهم، وأصاب في مسعاه الرامي إلى قبر كل تلك الضغائن التي حصدها القادة بعد الاستقلال في صراع السلطة، وفي معارك سببها الاختلاف فقط في الطريقة التي تعشق بها الجزائر. لقد فقدت الجزائر في رحيل الرجل التاريخي والمناضل والثوري الفذ الرئيس أحمد بن بلة جزء هاما من ذاكرتها، وودعت أحد صناع تاريخها، وهذه الحقيقة لا يجب أن تنسينا بأن بن بلة كان أيضا ضحية رفقاء السلاح، وما عاناه الرجل بعد انقلاب 19 جوان 65 أو ما سمي بالتصحيح الثوري الذي قام به الرئيس الراحل العقيد هواري بومدين، الذي كان حينها يشغل منصب وزير الدفاع، لم ينزع من قلبه حب الجزائر، والنضال من أجلها، ولم يسبق للرجل حتى بعد إخلاء سبيله بعد وصول الرئيس السابق الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم، أن تحامل حتى على نظام الحكم الذي منع عنه التمتع بنسيم الحرية ردحا من الزمن، فلم يتعرض لرفقاء السلاح وواصل نضاله للجزائر ولقضايا التحرر في العالم أجمع، فوقف بن بلة في وجه الصهيونية والعنصرية والاستعمار الجديد الذي بدأ يزحف على العالم العربي والإسلامي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ليتحول الرجل إلى رمز إنساني عربيا وإسلاميا وإفريقيا وعالميا. بن بلة الذي حكم الجزائر في عز فرحة الاستقلال والتخلص من ليل الاستعمار، لم يكن فقط رمزا للكفاح من أجل الوطن وإنما مثالا أيضا للمسؤول السياسي نظيف اليد، فهو يستحق أن يكون مثالا يقتدى به في حب الوطن ونكران الذات، وهذه الحقيقة يجب أن تقال في زمن انقلبت فيه المفاهيم، واختلطت على الناس كل القيم، وتحول النضال عند البعض إلى إعمال القتل في بني جلدته والاستعانة بالأجنبي وأضحت »الثورات« تعني بكل بساطة العمالة لمستعمر الأمس والتفاني في خدمته وبسط الأرض لتدوسها أرجل عساكر الحلف الأطلسي. لا نتحدث عن جنازة الرئيس بن بلة كمزية من السلطة اتجاه رجل أمضى زهرة شبابه في خدمة وطنه، ولم يحد عن هذا المنهج حتى لقي ربه، بل كواجب يجب أن يتكرر مع كل رموز هذا الوطن، ولقد كان الفضل في هذه السنة الحميدة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يكتف بنشر قيم الوئام والمصالحة والتسامح بين الجزائريين بعد أزمة طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وبعد مأساة قضى فيها أكثر من 200 ألف جزائري، فراح يجمع شتات كل رؤساء الجزائر المستقلة ممن بقوا على قيد الحياة.