أكتب خيوط هذا الأسبوع وأنا في المغرب، حيث نزلت في الدارالبيضاء ومنها إلى طنجة والعرائش ثم مكناس ومراكش فأغادير حيث حللتُ ضيفا على رابطة أدباء الجنوب للمشاركة في ملتقى الرواية العربية، ولأن رأسي في رأسي وأعصابي في أعصابي هذه اللحظة فسأترك الحديث عن الأمور الكبيرة حتى لا أشوّش على صفاء اللحظة، وأتحدث عن التفاصيل الصغيرة الموجودة هنا والمفقودة في بلادنا، قولوا عني ما شئتم، فسأقول ما يلي: صحيح أننا أكبرُ من المغرب مساحة فنحن الأوائل إفريقيا بعد تقسيم السودان المسكين، وأكثر منه سكّانا وإن كنا لا نبتعد عنه كثيرا، والأغنى اقتصاديا حتى أن صندوق النقد الدولي بدأ يلتفت إلينا معيرين بعد أن كنا نلتفت إليه مستعرين، والأقوى عسكريا إذ يتفوّق ترتيبنا عربيا وإفريقيا على المملكة، لكنها أفضل منا في التفاصيل الصغيرة للحياة. دعونا من الفقر الذي يمكن أن نرصد تجلياته في كل مكان من المملكة من خلال بعض النماذج البشرية، على الأقل في المدن التي زرتها، وهي تجليات لا نسلم منها نحن أيضا، وتعالوا نتحدث عن شروط الراحة الإنسانية، والتي تتوفر لك بمجرد أن تنزل في المطار، في الدارالبيضاءِ القطارُ تحت المطار مباشرة، لا تتعب أبدا في الوصول إلى قلب المدينة أو أحد أطرافها، وإن فاتك أن تأكل أو تشرب في أحد محلات المطار الكثيرة جدا يمكنك أن تعوض في القطار الذي تنسى معه سوّاق الأجرة في مطار الجزائر العاصمة، والذين يسلخون جيبك سلخا في الليل أو في النهار، كما أنك لا تتعب في العثور على فندق من النجمة الواحدة إلى النحمة الخامسة، وهي فنادقُ تختلف في عدد النجوم لكنها تشترك جميعا في حسن الخدمة والاستقبال، ليس هناك أي تكشير أو تنفير أو نفور، أو تضييق أو مراقبة خارج دواعي السلامة.. سلامتك. الأكل فعلُ متعةٍ قبل أن يكون حاجة بيولوجية، وفي المغرب، على الأقل في المدن التي أتيح لي أن أزورها يصبح الأكل متعتين، متعة الفعل، ومتعة الجو، طلبت بطاطا مقلية؟، ستأكل بطاطا مقلية فعلا، تماما كما تشتهيها نفسك، من غير أية مضاعفات صحية لأن الغش في جلبها وإعدادها وتقديمها منعدم، هل نمرض من أكلة إلا إذا كانت مغشوشة؟، والحديث قياس على كل الأطباق، التي تختلف أسعارها حسب الأماكن، وتتشابه النزاهة في طبخها، حتى أنك لا تضطر هنا إلى أن تطلب أن يزيدوك لأنك لم تشبع، ستأتيك عفويا الكمية الكافية لأنْ تشبع، لا بخل ولا إسراف. وكذلك الشرب، الشرب حضارة بغض النظر عن طبيعة المشروب، وفي المغرب، على الأقل في الفضاءات التي زرتها، تحس بأنك شربت فعلا، طلبت شايا؟، استعدّ إذن لأن تتذوق الشاي كمّا ونوعا، هنا لا يقدمون لك كأس شاي بل إبريقا، وحين تراعي أناقة تقديمه فستتضاعف متعتك، والحديث قياس على باقي الأشربة. المدينة ليست كهفا يغمض جفونه باكرا، المدينة اجتماع مفتوح، وفي المغرب على الأقل في المدن التي زرتها يمكنك أن تأكل أو تشرب أو ترقص أو تصلي أو تتصعلك أو تفعلها جميعا من غير أي إحراج في أي وقت من أوقات الليل أو النهار، فقط كن في مستوى الأوقات، وطبعا ذلك لا يتأتى إلا بتكامل القطاعات، وهذا هو الموجود في المغرب، قطاع النقل تماما مثل القطاعات كالأمن والسياحة لا ينام، إذا نام قطاع وقع الانقطاع. ما أجمل أن تطلب من أحد السكّان المحليين أن يلتقط لك صورة، أو يساعدك على تعبئة البورطابل من غير أن يتبادر إلى ذهنك أنه قد يفر بالآلة، أغلب الظن أنه محتاج، لكن من المستبعد أن يفعلها إما نبلا وإما خوفا من صرامة المتابعات، الضيف مقدس في المغرب، على الأقل في المدن التي زرتها، لذلك يغير كثير من الضيوف مواعيد المغادرة المضبوطة سلفا، الإنسان ميّال بالفطرة إلى حب الاعتناء به. في هذه اللحظة بالذات: صديقي الروائي الليبي محمد الأصفر يوغل في السؤال عن أحوال الجزائر، هذا الرجل يحبنا، ومغني الفضاء الذي كنا فيه يوغل في إكرام وردة الجزائرية ربي يرحمها من خلال ترديد بعض أغانيها، والنادل يوغل في العناية بي بعد علمه بكوني جزائريا، منذ أن نزلت في مطار الدارالبيضاء وأنا أسمع عبارات الإشادة بالجزائريين، في طريقي من كازا إلى طنجة عبر حافلة الساتيام سألت شابا موريطانيا عن اسم المدينة الموالية فقال لي: أنت جزائري؟، قلت: نعم، فصاح حتى التفت كل من في الحافلة: يا مرحبا، يا مرحبا بالرجال، وراح يحدثني عن دراسته في بلادنا على مدار خمس سنوات. ونحن نحب أنفسنا فلماذا لا نهتم بتفاصيل الحياة اليومية؟، الحكومة مسؤولة عن تعبيد الطريق، وتنظيف الرصيف، لكنها ليست مسؤولة عن تعليمنا كيف نمشي هنا وهناك.. هاك.. هاك: يا جدّك.. مالغري صا.. توحشتْ لبلادْ.