لا يبدو أن هناك تحسنا لبيئة يرغب فيها النظيفون في أفكارهم وقيمهم وأنفسهم ، ولكن هناك ِردّة تحدث كلما أحس الجزائريون أنهم بصدد الإقلاع عن عادة الاتساخ التي اجتاحتهم ودخلوها ، وأصبحت تهدد منظومة القيم لديهم وهي تعمل الآن على الإطاحة بكل معالم الجمال المتعدد فيهم .. لن أتحدث عن شكل العمران – خاصة الجديد منه – والذي ُيسيّج المدن والقرى وكافة التجمعات البشرية ، وقد توقف البناء فيه ، إما على الحديد الناظر إلى السماء كمن يطلب العون ، وإما بترك الآجُر الأحمر عاريا كمن يشير إلى خطر داهم قادم . ولن أتكلم عن الوديان الميّت والمُميت ماؤها ، والتي كانت من قبل جداول تسر الناظرين ، وهي الآن مسالك تحمل الموت لكل كائن حي ، نتيجة ما ُيصّب فيها من فضلات الإنسان السامة ومخلفات مصانعه القاتلة ، وحتى تلك التي جف ماؤها لم تسلم من التلويث ، فقد أصبحت أخاديد للمفرغات الفوضوية . ولن أتعرض للإسمنت الذي زحف كالمجنون في كل الاتجاهات على الخضرة ، يطاردها أينما حلت ، ولم تنجُ منه إلا بيوت الصفيح التي زاحمته في القضاء على الاخضرار وفي تشويه الأشكال العمرانية للبناء ، وراحت تتمدد كالأفعى على مختلف الطرق الوطنية والولائية والبلدية . إنني أتساءل باستمرار : هل رأى المسئولون المكلفون بإدارة الشأن العام بعض ما يراه الجزائريون من تخريب متعمد لبيئتهم ، على غرار التخريب العام الذي يضرب كيان المجتمع ؟ ليست لديّ إجابة بالسلب أو الإيجاب ، ولكنني أقول إنهم في الحالتين مذنبون ، في حق أمتهم أولا ، وفي حق من أسند إليهم هذه المسئولية ثانيا . وإذا كنت لا أدعو هؤلاء إلى جولة غير رسمية - لاستحالتها – تنطلق من الشوارع المنسية في المدن المرمية عبر أعماق الجزائر البعيدة ، لكنني أدعوهم فقط إلى ركوب قطار الجزائر الثنية مثلا ، ليروْا البيئة التي نتحدث عنها ، ونقيم لها الملتقيات ، وندعو إليها الشهود من خارج الجزائر ، ونُمنَح من أجلها أوسمة الشرف ، لا أعلق على ما سيراه الناظر عن يمين القطار أو يساره ، فأخشى أن تدفعني الحميّة البيئية إلى الخروج عن الموضوع ، لأن المناظر التي تصفعك بعنف وتعيد إليك بصرك أليما محسورا ، لا يمكن أن تكون إلا في جزائر تشويه البيئة عمدا ، ابتداء من محيط محطات القطار المؤلمة بالكتابات المؤسفة ، إلى تجمّع النفايات بأغلبها ، إلى فتح ممرات الانتحار للمتسللين خلف المخارج والمداخل الآمنة الرسمية ، ولكنني أقول إن استمرار هذا الوضع الشاذ ، قد يقتل في المواطن معظم مكامن الإحساس بالجمال ، وُيوطّن الشذوذ في نفسه ، فيمسح كل معاني الحياة منها ، ويومها قد لا تنفع هبّتنا من أجل البيئة ، ولا الإشهار لها ، ولا التجنّد – ولو أردنا – في سبيل نصرتها ، و هل ُتطلَب الحياة من نفوس ميتة ؟ وزير البيئة وتهيئة الإقليم والسياحة السيد شريف رحماني ،يعجبك قوله عندما تراه يتكلم ، وتهزك كلماته هزا وتنقلك إلى عالم صاف من الطبيعة الغناء ، ويسابق حديثه إليك كل الصور الجميلة الرائعة ، فهو صاحب تعليب جيّد embalage للسلعة أو المنتج ، ولكن أين السلعة أصلا ؟! أدعوه -خارج البروتوكول- إلى جولة قريبة من وزارته ، فيمتطي القطار السالف ذكره سواء العادي أو السريع ، وليرْمِ ببصره ذات اليمين وذات الشمال ، ابتداء من أطلال لافارج وما جاورها ، مرورا ببرْكة الحراش وواديها الذي تحول ماؤه إلى قطران وما وَمن يعيش على ضفته من أهل الصفيح ، وانتهاء بجرائم الإسمنت على المساحات الفلاحية التي تستغيث وهي تختنق ولا من مغيث ، وقد اسودّ لوْن ما بقي منها حيا ، إنها دعوة بريئة صادقة ، فقد يعيد بعدها السيد رحماني رسم خارطة طريق ، لما يمكن أن يصلح لبيئة لم ُيفسدها الدهر إنما خرّبها الإنسان عمدا وهو يحسب أنه يُحييها ، وربما يعاد تفعيل الآليات العملية والقانونية القائمة حاليا لحماية البيئة ، أو إيجاد آليات أخرى أكثر سرعة ونجاعة في تحقيق ذلك الهدف ، وقد يكون للسيد رحماني بعد انتهاء الجولة ،كلام آخر حول الجائزة التي تروّج لها وزارته في الصحافة هذه الأيام للمتبارين حول حماية البيئة ، ولعله يحوّلها إلى جائزة لمعرفة َمنْ أساء أكثر للبيئة من المجتمع الذي يبدو أن أغلبيته جبلت على الإساءة إلى كل ما هو جميل وأصيل ونظيف ... [email protected]