مصر التي ادعت أن حزب الله كان يعد العدة لتنفيذ مؤامرة ضد أمنها واستقرارها، وبعد أن تبين أن المسألة لم تكن كذلك، وبأن دور ما تسميه مصر خلية حزب الله يتلخص في العمل على دعم المقاومة الفلسطينية بتمرير السلاح عبر الحدود المصرية مع قطاع غزة، لم توقف أي مصر خطتها لتبرير سياستها غير الشعبية باللجوء إلى إسرائيل واتخاذها حليفا استراتيجيا، بل عمدت إلى توجيه دعوة رسمية لنتانياهو لزيارة أم الدنيا. مدير المخابرات المصري عمر سليمان الذي ظل يوجه التهم لحزب الله، لم يتوان عن الذهاب إلى إسرائيل، ومقابلة ليس فقط نتانياهو، وباراك مجرمي الحرب وقتلة أطفال فلسطين، بل جالس أحد غلاة الصهيونية المتطرف ليبرمان الذي ما انفك يكيل لمصر ولما يعرف بمحور الاعتدال، من الانتقادات والسباب ما لم يسبقه إليه أحد من الصهاينة. من فتحي الديب إلى عمر سليمان.. ليبرمان هذا هو الذي دعا منذ سنوات خلت إلى شن عدوان عسكري ضد مصر وتدمير السد العالي أحد أكبر مفاخرها التنموية، وهو الذي وجه انتقادا شديد اللهجة ضد الرئيس المصري حسني مبارك، خرج فيه عن حدود الأداب الديبلوماسية واللياقة الإنسانية حتى لا أقول تجاوز قلة الأدب بكثير. ليبرمان لم يكتف بانتقاد عدم زيارة مبارك لإسرائيل منذ توليه الرئاسة في مصر بل ذهب إلى حد القول في حق الرئيس المصري ومن منبر الكنيست الإسرائيلي:" إذا أراد الحديث معنا فليأتي إلى هنا، وإذا رفض المجيئ فليذهب إلى الجحيم". لست ادري لماذا تعمد الحكومة المصرية إلى وضع مصر في هذه المواقف الصعبة التي تتنافى ودورها القومي الطلائعي الذي ما انفكت تلعبه على الصعيدين العربي والدولي. فلا أحد يمكنه إنكار دور مصر في دعم الثورات وحركات التحرر في العالم وعلى رأسها الثورة الجزائرية التي كانت مصر لها نعم النصير. وشتان بين فتحي الديب وعمر سليمان. فما الذي يدفعها اليوم إلى اتخاذ هذه السبيل التي تنزع عنها الوقار السياسي، والدعم الشعبي وتجلب لها ازدراء الشارع العربي. مؤامرة افتراضية للاستهلاك المحلي لقد كان موقف الحكومة المصرية تجاه الحرب على غزة، وبالا عليها، وما كان عليها أن تمضي قدما في تبريره وإن بفبركة مؤامرات مزعومة، واتهامات لحزب الله الذي يعلم الجميع بمن فيهم الإسرائيليون أنه لا يستهدف إلا الاحتلال الاسرائيلي، ولا يخفي خططه وأهدافه وعندما يتكلم زعيمه فإنه يتكلم بصدق وهذا باعتراف الصهاينة أنفسهم. نصر الله اعترف بأن الموقوف أحد أعضاء حزبه وشرح للعالم دوره الحقيقي ونفى أن تكون نيته استهداف أي بلد عربي، بل أثنى على مصر، وعبر عن احترامه لها ولكل الدول العربية وطمأن الجميع أنه يرفض الخوض في الشؤون الداخلية لأي نظام عربي وهذا ما تعرفه وتقر به المعارضة العربية في كل مكان وحتى المخابرات العربية. الحكومة المصرية تصر على توظيف نشاط حزب الله في دعم المقاومة الفلسطينية كمؤامرة خارجية تستهدف مصر، وهذه ظاهرة قديمة معروفة كانت تلجأ إليها بعض الأنظمة التي تعاني داخليا من أزمة شعبية وغليان لإعادة اللحمة الوطنية والشعبية حول الحكومة محل الإدانة عن طريق عقدة المؤامرة والتخويف بعدو خارجي مزعوم. والحقيقة أنها لم تبتعد كثيرا لتفرغ خطتها من كل محتوى فلا أحد في مصر يعتقد أو يقتنع أن حزب الله أو إيران يشكلان خطرا على مصر، وبالتالي هما العدوان، وان إسرائيل وحكومتها المتطرفة هي العمق الاستراتيجي للسلم، والحليف الصديق لمصر في المنطقة. نتانياهو وليبرمان "وجه واحد" لعملة واحدةحقيقة أن الرئيس المصري حاول أن يخفف من وطأة الضربة على المصريين والعرب أجمعين بالتأكيد على أن دعوة مصر لزيارة القاهرة كانت موجهة لنتانياهو فقط ولن يصحبه أي وزير، بمن فيهم وزير الخارجية ليبرمان الذي يبقى وزيرا غير مرحب به في مصر. لكن هذا لا يعني أن الحكومة المصرية صححت موقفها وأعادت حساباتها ذلك لأن نتانياهو ليس أفضل من ليبرمان، ولا يمكنه بكل المقاييس أن يكون وليا وحليفا، ويكون حسن نصر الله بالمقابل العدو المبين الذي لا يؤتمن جانبه، وهو الذي حقق ما عجزت عن تحقيقه الجيوش والزعامات العربية. مصر العريقة بتاريخها القوية بحضارتها وتعدادها وثقلها أكبر بكثير من أن تسقط هذه السقطات المتتالية، التي جعلتها لا تفرق بين، بين الشقيق والغريم، وبين الصديق والعدو. والحكومة المصرية وفي تداعي الأحداث والتطورات فقدت رأس الخيط، وأوغلت في سياسة كانت مرغمة عليها في ظروف ما، لكنها لم تعد كذلك اليوم بعد تغير تلك الظروف وتوفر ما يمكنها من تحسين وضعها التفاوضي في المنطقة كعامل مؤثر لا كمجرد وسيط لا يملك وسائل وأدوات وإمكانيات سياسته وقدرات فرض البديل. ولعل الخطأ القاتل الذي يجب تصحيحه هو تحديد العدو من الصديق بحزم لأن السقوط في التصنيف الأمريكي الإسرائيلي الذي يجعل من حماس وحزب الله وإيران الأعداء في المنطقة، وأنهم الخطر الداهم الذي يحمل كل الشرور، ويقدم إسرائيل على أنها الحليف الاستراتيجي الذي لا يشكل خطرا على أحد، سيكون تجسيدا آخر لحكاية الثيران الثلاثة المشهورة، لأن البادئ بإيران سيثني بأي بلد عربي أو إسلامي يحاول أن يرفع رأسه أو يخرج من كبوته، تماما كما قال عبدالناصر رحمه الله بالأمس عندما كانت مصر تقود العمل العربي القومي التحرري: إن البادئ بمصر سيثني بأي بلد عربي.." وفي هذا الكثير من العبر. حقيقة أن بيننا وبين إيران او بين السنة والشيعة خلافات كبيرة، لكنها تبقى خلافات فقهية من اختصاص الفقهاء ودعاة التقريب بين المذاهب لكنها تبقى في إطارها الديني الإسلامي ولا يجب أن توظف في اتخاذ المواقف السياسية التي يبقى فيها الشيعة وإيران الأكثر موضوعية والأكثر شرعية والأكثر خدمة لقضايا الدين الجوهرية، وعلى رأسها قضية فلسطين قضية المسلمين المركزية، فمن يعادي إسرائيل التي اغتصبت القدس وما حولها، ويطالب باستعادتها، ويجهر بعدم أحقية إسرائيل في الوجود، ومن يجرم المقاومة وينتصر لإسرائيل ويتخذها حليفا، ويضع يده في يد مسؤوليها الملطخة بدماء الفلسطينيين لا يستويان لا يستويان..