هناك في الساحة السياسية ما يشبه " التخلاط" غير البريء الذي بدأ يأخذ أبعادا خطيرة، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية. وكما يبدو فإن المستهدف الأول هو حزب جبهة التحرير الوطني وكل المنظمات التي تشكل الأسرة الثورية من مجاهدين وأبناء شهداء وتنظيمات أخرى، فما الذي يجري حقيقة؟ ولماذا هذا التوقيت بالذات؟، أم أن في الأمر شيئا أبعد من البحث البريء عن الحقيقة؟ كل هذه التساؤلات نطرحها بمناسبة ما يجري على الساحتين السياسية والإعلامية، جراء ما أثارته بعض التصريحات من جدل، طبعا هذا الملف من أعقد الملفات التي ستواجها الجزائر مستقبلا، ونقصد بذلك إعادة كتابة تاريخ الثورة، هذا المشروع الذي تأجل مرارا خوفا من أن يؤدي فتحه إلى تصفية الحسابات والانتقام والفوضى. كل هذه المبررات مقبولة، ولكن إلى متى سوف يبقى هذا الملف مغلقا ولمصلحة من؟ ومن يخشى من أن يعرف الشعب الحقائق؟ وهل أن كشف الحقيقة أهون من إخفائها، أم أن هناك أشياء من الأفضل للأمة أن تبقى في طي الكتمان، كما فعلت العديد من الدول بما في ذلك أعرق الديمقراطيات؟ إن أحسن مثال على هذا، فرنسا التي ترفض تسليم الجزائر أرشيف الثورة، خوفا من أن يكتشف العالم ومعه الشعب الفرنسي والجزائري حقيقة الجرائم الاستعمارية؟ وها هو أوباما يرفض نشر الصور الخاصة بتعذيب السجناء العراقيين خوفا على سمعة أمريكا. هذه المهمة سوف تبقىمسؤولية كل الشرفاء وفي مقدمتهم حزب جبهة التحرير الوطني الذي يملك الأهلية الثورية والمعنوية لصيانة ذاكرة الشهداء والحفاظ على كرامة المجاهدين شرط أن لا تكون هذه المهمة من قبيل الانتقام الأعمى، أو العمل لحساب جهات مشبوهة أو أصحاب مصالح لا يحركهم في ذلك أي دافع أخلاقي أو هدف سياسي أو إيمان حقيقي بضرورة كشف الحقيقة. إن كل الاتهامات التي ساقها هذا أو ذاك تبقى مجرد إدعاءات ما لم تدعم بالأدلة والبراهين، • وحزب جبهة التحرير الوطني يملك كل المؤهلات والقدرة السياسية على الرد على هذه الإدعاءات بما يخدم الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وأفضل طريقة للرد تكون عبر الحفاظ على سمعة ومكانة الحزب، وريث الكفاح والنضال الثوري الذي خاضته الأمة من خلال اختيار العناصر النظيفة، وتدعيم مفهوم الكفاءة والإلتزام والأخلاق، لأن هذا الثالوث هو من صنع أمجاد جبهة التحرير الوطني خلال الثورة، عندما كان المجاهدون يخضعون لأشد العقاب لمجرد ضبطهم في حالة تدخين سيجار. هذا الحرص على صورة المجاهد وسمعته هو الذي حول جبهة التحرير الوطني إلى أسطورة تقتدي بها كل حركات التحرر في العالم، بدءا بكورسيكا ووصولا إلى أمريكا اللاتينية. لذا فإن قيادة الحزب مطالبة بالسهر على الحفاظ على هذا الإرث التاريخي حتى لا تترك المنافذ للمغرضين أو حتى لذوي النيات الإصلاحية الصادقة، والذين قد يبحثون عن " القمل" في رأس الحزب لأن أحد أعضائه أساء التصرف. بعيدا عن التدخل في الحياة الخاصة للناس والأشخاص والشخصيات التي تبقى ملكا لكل واحد وبكل حرية، فإننا نقول بأن من يدعي تمثيل أبناء الشهداء، لابد وأن يكون ملتزما بالصورة التي يقدمها وبالرسالة التي يدافع عنه. إن الطريقة التي تم بها طرح موضوع مثل المجاهدين المزيفين في السابق أو عدد الشهداء على لسان نجل الشهيد عميروش في جلسة البرلمان، أو ما يطلق اليوم من اتهامات، تدل على أن القصد ليس البحث عن الحقيقة بقدر ما هو توظيف لأشياء قد تكون حقيقية أو باطلة لتصفية حساب هذا الجناح مع ذاك، أو إحلال سلوكات معينة كنوع من الابتزاز السياسي أو الضغط أو خلط الأوراق، خاصة في هذه المرحلة التي تعرفها الجزائر، والتي من المفروض أنها سوف تشهد تجسيد البرامج المسطرة، بعد نجاح العملية الانتخابية، وحصول الرئيس على النسبة التي كان يريدها. المفروض أن هذه الوضعية سوف تؤدي حتما إلى استقرار البلاد ومباشرة الملفات الحساسة، مثل موضوع المصالحة الوطنية والخيارات الاقتصادية، ومثل موضوع الشراكة الأوربية الذي قد تعاد المفاوضات بشأنه بعد النتائج العكسية التي أفرزها،. كل هذه المعطيات قد تكون هي المستهدف من إثارة مثل هذه المواضيع في هذا التوقيت بالذات، ولمصلحة من؟ المؤشرات المذكورة تذهب في اتجاه اعتبار ما يجري موجها ربما بالدرجة الأولى ضد حزب جبهة التحرير الوطني، الذي لم تخف العديد من الأطراف المعادية والحاقدة أملها في أن تراه قابعا في أحد المتاحف، بل أن هناك من يريد محاسبته على أشياء كثيرة. إن المخزون العقائدي والفكري والمعنوي لحزب جبهة التحرير الوطني -ومهما قيل- تجعله يبقى دائما ضمن خانة الدفاع عن هوية الشعب الجزائري، من لغة ودين وثقافة وانتماء، ولا يمكنه أن يؤدي هذه الرسالة إلا من خلال التبني الصريح للدفاع عنها والعمل على محاربة أعداء الجزائريين، وعدم التسامح مع أي كان، حتى لو كان من أبناء الحزب، إذا ما أساء لهذا الإرث وهذه السمعة. النقطة الأخرى التي لابد من الاشارة إليها هي تلك المتعلقة بالكيفية المثلى للتعاطي مع هذا الملف، ويقصد به ذاكرة الأمة الجزائرية، لابد من أن يكون هذا الملف بين أيدي الباحثين والمختصين، الذين ينبغي أن توكل لهم وظيفة تطهيره من الأكاذيب والتزويرات والحملات التشهيرية والانتقامية، شرط تحري الموضوعية والصدق. لقد لجأت العديد من الدول إلى هذا الأسلوب الذي أخذ وقتا وسنوات طويلة، وتم القيام بتصحيحات مرحلية حتى لا يصدم الناس في معتقداتهم، لذا فإن طرح الموضوع عبر الصحافة وبطريقة فيها الكثير من الذاتية والقليل من الاحترافية، كما حصل مؤخرا، لن يخدم الحقيقة مطلقا، بل قد يؤدي إلى لعبة شد ومد بين الأطراف التي تقف وراء مثل هذه الخرجات، لأننا لا نتصور مطلقا أنها تمت بقرار شخصي من هذا الطرف أو ذاك، لكن هذا لا يعني مطلقا أنه ينبغي السكوت -إذا ما توافرت الأدلة- عن الأشخاص ذوي الماضي المشبوه، مع التنبيه إلى موضوع أبناء الحركى الذي ينبغي أن يعالج وفق أحكام ديننا الذي لا يحمل الأبناء وزر آبائهم، باستثناء أولئك الذين يعلنون صراحة أن آباءهم كانوا على حق عندما خدموا فرنسا وأجرموا في حق الثورة والشعب الجزائري، فهؤلاء يقع عليهم ما يقع على كل الخونة وفق كل الشرائع والقوانين المعمول بها عالميا.