انتقلت الرياضة من فرجة كان نبلاء روما القديمة يتلذذون بتقاتل الرياضيين فيها، إلى ممارسة بدنية تصحّح الأجسام وتحمي العقول، إلى جعلها إما أفيونا يخدّر الشعوب ويمنع عنها رؤية ما يفعله الحكام فيها، أو مخبرا يتجدّد فيه بناء اللحمة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة . لست مختصا في الكتابة الرياضية، وقد أكون أقل المناصرين تعلقا بهذا الفريق أو ذاك، ولكن يجتاحني"التعصّب العاقل"فقط عندما يواجه الفريق الوطني فريقا آخر شقيقا أو صديقا، ولم أكتب عن الرياضة إلا مرة واحدة فيما أذكر حينما انضم فريق الخضر إلى المؤسسات "الوطنية" التي حرمت الجزائريين من الفرحة خلال رحلة تسعينيات القرن الماضي المريرة، ففي تلك المرة كتبت ألوم وزير الشبيبة والرياضة في ذلك الوقت عن آخر المتعثرين في فرحة الجزائريين وكنت- لسذاجتي- أحسب أنه صديق ونحن نتبادل التهاني والتحايا ونفرح ببعضنا لما نلتقي، كتبت ألومه عن سقوط أخر القلاع التي بقيت تدل على أن الجزائريين بإمكانهم أن يفرحوا أيضا رغم عموم عتمة السواد والدماء التي حملتها لهم تلك العشرية المخيفة، ودعوته إلى الاستقالة كما يفعل المسئولون في الدول المتحضرة أو التي هي على الطريق، طالما كان شاهدا على اغتصاب الفرحة الوحيدة التي بقيت للجزائريين والتي يمكن أن تحوّل وسائل التدمير العام في يد المجانين إلى آلة موسيقية تعيد بعث الذات الجزائرية المغيّبة، فما كان من"صديقي"الوزير إلا أن قطع تواصله معي وقتل الفرحة التي كانت تهزني كلما التقينا بعدما سقط الخضر في الوحل. الرياضة في خدمة السياسة استعملت السياسة الفن الرياضي كإحدى وسائلها الفعالة "والقاتلة"في الترويج للفكر الأيديولوجي الذي يتحرك اقتصاديا وثقافيا وعسكريا في كثير من الأحيان، ووظّفه الحكم العربي كجزء من آلة الدعاية إلى أطروحاته وأفكاره القطرية الضيقة أو الأممية المميعة، مما شنّج علاقات الشعوب ببعضها، كلما تقابل فريقان رياضيان من دولتين عربيتين إلا وانطلقت أحداث داحس والغبراء يؤجج الإعلام الرسمي نيرانها، خاصة في حالات تنافر نظاميهما السياسيين أو حدوث فجوة ولو عابرة، مما رفع من حجم الحواجز المقامة بين الشعوب العربية، وزاد في الشرخ الذي أقامه النظام العربي بينها منذ أن استقل بعضها واسترد الاستقلال البعض الآخر . الشعب العبوس الجزائريون يشهدون أن حكايتهم مع الأفراح انتهت منذ نهاية الثمانينيات، وأطلقت عليها مواسم الفتنة ومآتم المأساة الوطنية، رصاصة الرحمة إلى أجل غير معلوم، ولم يستطع السياسيون- رغم مساعي البعض وإخلاصه- أن يخرجوا الشعب من حزن إلا ليدخلوه أحزانا أخرى، فمن رحلة القتل العشوائي إلى الإرهاب المنظم إلى الفساد المعلن، ولم يستقم الحال مع استتباب الأمن وامتلاء الخزينة واستقدام الاستثمار وازدحام الساحة بالموارد البشرية الكفءة، وأعاد السياسيون الفاشلون كبوة الجزائر إلى الشعب نفسه، فكثيرا ما ترى هذا المسئول يلوح باللائمة عليه، سواء في مسألة انخفاض مستوى المعيشة لأنه شعب"ملهوف" يأكل بلا نظام أو تنظيم، أو في قضية انتشار القمامة لكونه متسخا بالعادة والتطبع، أو في معضلة ارتفاع معدلات الجريمة لديه لأنه عدواني بطبعه، أو في ظاهرة اكتظاظ الطرق وزحمة المواصلات لأنه أساء استخدام نعمة إمكانية حصوله على وسيلة نقله بالتقسيط، وظل الشعب محاصرا بكل هذه التهم حتى فقد البسمة وكأنه عبوس بالسليقة . الفرحة الهوية جاء أشبال الشيخ رابح سعدان من بعيد، من بلاد التماسيح، ونفخوا في روحه- ومن ملعب الموت- بعثا جديدا من الفرحة التي تم تغييبها حينا من السنين، فقدّموا انتصارا ثانيا لشعبهم أكدوا به من جهة، أنهم لم ينتصروا على أبناء المصري حسن شحاتة صدفة أو بضربة حظ كما سوّق بعض الإعلام، ومن جهة ثانية، أيقظوا به شحنة من الفرح استخرجت الألم المكبوت منذ سنين، بفعل عوامل سياسية وأمنية واجتماعية، لم يستطع أصحابها تفريغها في الفضاءات المخصّصة لها على مستوى الممارسة السياسية أو الحوار الاجتماعي، والتي أدت إلى إشعال النيران فيمن له جيب وفيمن لا يملكه، وقذفت بآلاف الشباب إلى البحر فيما يشبه هجرة الانتحار المخزية، لقد كوّن الجزائريون عبر كل الجزائر طوفانا للأمل بعد كل سنوات الألم، لا يطلبون بعده- حسبما أرى- إلا أن يعبّروا عن ُهوّيتهم التحررية الخلاقة بفسح المجال لهم للتظاهر السلمي المؤطر، وممارسة حقهم في المعارضة الراشدة، والمشاركة الحقيقية في بناء الجزائر كل من موقعه، وتفكيك القنابل الاجتماعية الموقوتة نتيجة الإسكات الغبيّ للأصوات التي يمكن أن تنفجر في أصحابها وفي المجتمع كله، وقد عبّر بعضها عن وجوده من خلال العنف الذي ما انفك يجتاح الملاعب، أو الشغَب الذي يصاحب مظاهرات" المطالب"ولم يجد له المختصون تفسيرا كما يقولون. فرحة إلى حد الجنون فرح الجزائريون إذن على اختلافات توجهاتهم وحيثما كانوا بانتصارهم الأول خلف فريقهم الكروي الذي أطاح بنظيره المصري، في ملحمة رياضية هزت أرجاء البلاد، كما اهتزت لها مدرجات ملعب البليدة، خرجوا بعدها إلى شوارع مدن الجزائر وقراها ومداشرها، في فرحة كبرى قال عنها كبار السن إنها فاقت فرحة انتصار فريقنا على ألمانيا عام 1982وتشبه إلى حد كبير فرحة استرجاع الاستقلال، تجاوزوا فيها حدود المعقول إلى حد الجنون، فلا أصحاب السيارات خافوا على سياراتهم من مخاطر الطريق، ولا الأهل هالهم ما يمكن أن يقع لأبنائهم من حوادث قطفت زحمة الأفراح أرواحهم، ولا الشرطة أخافها ما يحتمل أن يعكّر صفو الأمن العام، ليقولوا لسياسييهم أولا وللعالم ثانيا، إنهم أبطال للفرح يصنعون منه تمثالا في قلوبهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، كما أنهم أسود أشاوس في الوغى والمحن لا يضارعهم إلا ذوو البأس، وجدّدوا اللوحة في انتصار الخضر على زامبيا، ولم ينتظروا صفارة الحكم حتى كان الأطفال و الشباب والكهول والشيوخ في الشوارع، يجوبون الطرقات في مواكب للفرح الكبير، تباركهم زغاريد النسوة من شرفات منازلهن وسياراتهن، حيث كسّرن احتكار الرجل للشارع في مثل هذه المناسبات . احذروا حزب الرياضة لقد وحّدت الرياضة بصفة عامة وكرة القدم بوجه خاص، كل الجزائريين كما لم يوحّدهم حزب من قبل أو جمعية أو قضية، واستطاعت هذه اللعبة أن تتجاوز أكثر المؤسسات عراقة وأكبرها قوة في صناعة القرار، فقد استطاعوا أن يكتبوا بفرحتهم الواحدة العارمة الشاملة رسالة واضحة لا لبس فيها لمن يهمه الأمر، إنهم يمكن أن يتوحّدوا عكس ما يشاع عنهم سياسيا وإعلاميا، إذا ما صدقت النوايا وأكدتها النتائج، فلماذا لا يكون الاستثمار بصدق وشفافية وإخلاص في هذا المرفق؟ أو قل الحزب الكبير التي يناضل فيها جميع الجزائريين الذين يمكن أن يكونوا سيلا يجرف الغث والسمين، إن لم يحسب لهذه الجبهة النائمة حسابها في المعادلة الصحيحة الخالية من الكسور، فالطرقات التي شهدت التزامهم بإقامة طقوس الأفراح، بكل ما تحمله من تحنّة ومودّة وتضامن، قد تكون معبرا للسخط والزلازل، إن رأوا أنه ُيستهتر بهم، وتؤجّل أحلامهم المشروعة، فاحذروا يا أهل السياسة من غضبة الحزب الكبير الذي اسمه حزب الرياضة !!! [email protected]