منذ اعتماد قرارات تحرير التجارة الخارجية خلال التسعينيات، لم تعمد الدولة الجزائرية إلى اتخاذ قرارات حازمة وواضحة للتقليل من حجم السوق الموازية الذي قدر من قبل مسؤولين في الحكومات المتعاقبة بحوالي 40 بالمائة من الناتج المحلي الخام وقرابة الربع من اليد العاملة، لتظل السوق الموازية تفرض نفسها كعامل أساسي في تقدير الاقتصاد الجزائري· وتؤكد تقارير البنك العالمي لسنوات 2000 إلى 2009 الدور المتنامي والكبير للسوق الموازية، وهو نفس الانطباع الذي يقدمه الخبير المتخصص في مؤسسة ''هيرمس'' الألمانية، هوندرو أتكينسون، معتبرا بأن مكانة السوق الموازية في الاقتصاد الجزائري يظل كبيرا· ويتضح من خلال كافة التدابير التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في الجزائر، أن هذه الأخيرة أضحت تتعامل مع السوق الموازية كواقع أو كأمر واقع لا يمكن القفز عليه ولا يمكن القضاء عليه، بل فشلت السلطات العمومية حتى على تحجيمه أو تأطيره وإدخاله في نطاق نظامي، حيث قدرت مديريات الضرائب عمليات التهرب الجبائي والضريبي ما بين 80 و90 مليار دينار على الأقل مع عدم إمكانية حصر القيمة الفعلية التي لا تدخل إلى خزينة الدولة· في نفس السياق، أفاد مصدر مالي ل ''الفجر'' أن الكتلة النقدية المتداولة خارج نطاق البنوك وخارج نطاق الرقابة والضرائب تتراوح تقريبيا ما بين 1200 و1500 مليار دينار، بما يعادل ما بين 16 إلى 20 مليار دولار، تبقى خارج نطاق الرقابة، جزء منها قابل للخضوع لعمليات تبييض، حيث تركز حاليا خلية الاستعلامات المالية التي يترأسها السيد أمغار على جوانب تخص إمكانية تبييض الأموال في قطاعات ومجالات على رأسها العقار· العقار والتجارة والعملة الصعبة·· الثالوث الخطير يشير الخبير المالي والاقتصادي، جورج ميشال، إلى أن الجزائر كغيرها من الدول الاشتراكية التي بدأت عملية انتقال إلى اقتصاد السوق دون الوصول إليه، تبقى تخضع للعديد من التناقضات الاقتصادية وعلى رأسها بروز السوق غير الرسمية وسيطرتها على قطاعات كبيرة· وتبقى هذه القطاعات بمنأى عن تحكم الحكومات والدول، بدرجة كبيرة، ما يتيح مستوى كبير من المضاربة ومن التعاملات غير الواضحة· ويتضح ذلك في الجزائر جليا في مجالات مثل التجارة، مع سريان تعاملات تخص الأسماء المستعارة والشركات الوهمية أو التعاملات غير القانونية فيما يخص السجلات التجارية التي تقدم على أساس أسماء غير أسماء أصحابها الحقيقيين· ولكن أيضا استغلال العديد من الثغرات في القوانين وقلة الضبط والمراقبة وانتشار ظواهر الفساد والرشوة، مثلما تؤكده تقارير البنك العالمي ومنظمة شفافية دولية· أما بالنسبة للخبير الألماني أندرو هاتكينسون، في آخر تقييم له حول الوضع الاقتصادي الجزائري، فإن الجزائر تبقى دولة مغلقة بإرث اشتراكي رغم أنها نظريا انتقلت إلى اعتماد اقتصاد السوق ولكنها تظل تخضع للطابع المركزي للتسيير الاقتصادي ومركزية القرارات التي غالبا ما تشجع على بروز العديد من الاختلالات والمضاربات، ويتضح الأمر بالخصوص مع سوق العملة الصعبة· ويوضح الخبير المالي، السيد كاميل ساري، أن المنظومة البنكية الجزائرية لاتزال بدائية ولاتزال متخلفة إذا ما قورنت مع الدول الصاعدة أو دول أوروبا الشرقية التي اجتازت بنجاح مرحلتها الانتقالية· وهذه المنظومة لا تسمح بتوضيح قواعد التعاملات المالية والمصرفية وتشجع على التوجه إلى السوق الموازية· هذه السوق، تتداول ما بين 50 و60 بالمائة من تحويلات المغتربين الجزائريين والرعايا الجزائريين المهاجرين بالخارج، نظرا لغياب أية آليات تحفيزية ولوجود عقبات كبيرة في عمليات التحويل وسعر الصرف المحدد إداريا· ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالجالية الجزائرية بالمهجر، بل أضحى يخص المتعاملين الاقتصاديين والأشخاص العاديين في الجزائر، فغياب ثقافة الفوترة والتخلف الكبير لنظام الدفع وتأخر الإصلاح البنكي الموعود جعل النظام البنكي يتخلف مقارنة بدول كثيرة في منطقة المتوسط والمنطقة العربية إلى درجة صنف فيه المنتدى الاقتصادي العالمي النظام البنكي الجزائري في المراتب الأخيرة عربيا وعالميا في تقريره السنوي 2008 و.2009 وقد شجعت السلطات العمومية بصورة غير مباشرة تنامي دور السوق الموازية، من خلال عدم إعادة الاعتبار للصك البنكي وتأخر تعميم استخدام البطاقات البنكية وعدم فعالية نظام الدفع الشامل· كل هذه العوامل جعلت ثقافة ''الشكارة'' معممة وثقافة ''السيولة النقدية'' قائمة في كافة التعاملات التجارية بما في ذلك الكبيرة· وأضحى المتعاملون الاقتصاديون مضطرون للجوء إلى السوق الموازية ''سوق العملة الصعبة'' لضمان توفر سيولة في مجال التعاملات التجارية واستيراد المواد الأولية والمدخلات أو في تعاملاتهم التجارية الداخلية لغياب الفوترة في معظم التعاملات ولسيادة ثقافة الدفع نقدا بسبب غياب الثقة في البنوك· مكاتب صرف موجودة في القوانين فقط ويلاحظ أن السلطات العمومية لم تؤطر مثلا سوق العملة الصعبة رغم أن القوانين موجودة منذ أكثر من 13 سنة، فقد تم إصدار التعليمة رقم 08 - 96 في 18 ديسمبر 1996 ثم التعليمة رقم 9713 في 10 ديسمبر 1997 المعدلة والمتممة لشروط إنشاء واعتماد مكاتب الصرف، حيث تنص التعليمات الصادرة عن بنك الجزائر على إمكانية إقامة أشخاص ماديين ومعنويين لمكاتب صرف واعتمادها من قبل بنك الجزائر شرط توفر محل يفي بالغرض· إلا أن هذه التدابير لم تطبق إطلاقا إلى يومنا، وظلت السوق الموازية تسيطر على التعاملات الخاصة بالعملة الصعبة على نطاق كبير· ويؤكد خبراء أنها ستبقى كذلك لسنوات عديدة نظرا لطبيعة العملة الجزائرية غير القابلة للتحويل إلا في حدود ونطاق محدود يخص بعض جوانب التجارة الخارجية· أما الجانب الثاني الذي برزت فيه السوق الموازية، فهو التجارة لاسيما التجزئة منها، حيث أضحت السوق الموازية، ممثلة في الأسواق الكبرى، ديكورا عاديا سواء تعلق الأمر بالألبسة والمواد الغذائية أو السيارات· فأسواق تاجنانت والعلمة وباب الزوار والحاميز والحراش، أضحت واقعا مفروضا و''مقننا''، بل أن السلطات العمومية شجعت تنامي مثل هذه السواق رغم أنها لا تخضع لمقاييس تجارية مضبوطة، مع غياب الفوترة بالخصوص· كما أضحت البديل الفعلي مع غياب شبكات التوزيع وقنوات التوزيع المؤطرة للنشاط التجاري، فضلا عن غياب المساحات الكبرى، إذ تبقى الجزائر الدولة الوحيدة في المنطقة التي تفتقد لمساحات تجارية كبرى ولقنوات وشبكات توزيع لضبط السوق وتنظيمه، خاصة بعد القضاء كليا على أسواق الفلاح والأروقة الجزائرية خلال الثمانينيات وعدم إحلال أي بديل مكانها· كما ساهمت السلطات، من خلال منع القروض الاستهلاكية مع قانون المالية التكميلي 2009 من عودة السوق الموازية بقوة أكبر في مجال التعاملات، بل أضحت تفرض قوانينها بصورة أكبر، مع تحديد الأسعار بعد أن تقلص نطاقها مع قرار منع استيراد السيارات القديمة في قانون المالية التكميلي 2005 وتشجيع القروض الاستهلاكية· وأخيرا، يظل العقار مجالا للمضاربة وللتعاملات غير الرسمية أيضا، ففي غياب شبكة أسعار مقننة، وفي غياب ضبط لسوق العقار وغياب الرقابة تظل الجزائر الدولة الوحيدة التي لا تخضع فيها تسعيرة العقار لمنطق تجاري واقتصادي· ففي الوقت الذي عرف فيه سوق العقار انهيارا في دول كبرى وركودا في دول الجوار والدول العربية (تونس والمغرب ومصر والإمارات العربية المتحدة)، عرفت أسعار العقار والبناء ما بين منتصف 2008 ومنتصف 2009 تراجعا يتراوح ما بين 20 و45 بالمائة، سجل سوق العقار في الجزائر التهابا كبيرا ومضاربة على نطاق واسع إلى درجة أن سعر المتر المربع في الجزائر تضاعف حسب ما يؤكده مسؤولو مجمع المهندسين المعماريين الجزائريين بأكثر من 200 بالمائة خلال عشريتين رغم ارتفاع العرض·