صباح الجمعة الماضي، هاتفتني صحافية شابة تعمل في إحدى الصحف المصرية، لتسألني عن رأيي في حصول الرئيس أوباما على جائزة نوبل للسلام• فاجأني الخبر ووجدته غريبا إلى حد كبير، وبدلا من أن أجيب رحت أسأل محدثتي عما إذا كان ذلك خبرا مؤكدا، أم أنه مجرد تكهنات صحافية• وبينما راحت الصحافية تؤكد أن الخبر أعلنته بالفعل لجنة نوبل منذ دقائق، كنت أعود بذهني لما كان يشغلني قبل اتصالها• كنت أستعد لكتابة مقالي الأسبوعي الذي اخترت أن يكون عن تطور الوضع في أفغانستان ومأزق ''الاحتلال'' الأمريكي هناك• وكنت، لحظة أن دق الهاتف، أفكر في الخيارات المتاحة أمام أوباما في أفغانستان، واحتمالات التصعيد العسكري هناك الذي يعني بالضرورة المزيد من الضحايا•• فإذا بهذه الصحافية الشابة تخبرني أن الرئيس الذي يوشك أن يتخذ قرارا بالتصعيد في أفغانستان، وقال قبل يومين إن الانسحاب ليس من البدائل المطروحة، هو الفائز بنوبل للسلام! بل المفارقة الأكبر كانت أن لجنة نوبل أعلنت قرارها في اليوم نفسه الذي كان الرئيس الأميركي سيقضيه في اجتماعات مطولة مع مستشاريه ''المدنيين والعسكريين''، في إطار الإعداد لاتخاذ قراره بشأن الاستراتيجية الأميركية هناك! قلت لمحدثتي إن الخبر مفاجأة بكل المقاييس، خصوصا وأن آخر موعد للترشيح للجائزة كان بعد وصول أوباما للسلطة بأسابيع قليلة• وأضفت أنني في العموم أتحفظ كثيرا على حصول أي رئيس أو مسؤول سياسي على أية جائزة دولية وهو في موقع المسؤولية، فهي مسألة فيها شبهة تسييس واضحة، فضلا عن أنها مقامرة قد تقلل من قيمة الجائزة وتضعف مصداقيتها، إذا ما اتخذ ذلك السياسي بعد الحصول عليها قرارات تناقض أهداف الجائزة• أما إذا كانت تلك الجائزة جائزة ''سلام'' يصبح التحفظ مضاعفا، ذلك أن الرئيس أي رئيس بحكم موقعه يسيطر على آلة الحرب في بلاده والتي يروح بالضرورة ضحيتها أبرياء• أما إذا كانت تلك الجائزة تمنح لرئيس القوة الأعظم التي تحتل بلدين كبيرين، فتلك إشكالية أخرى تثير الكثير من الأسئلة، خصوصا إذا كان لم يمض في منصبه سوى تسعة أشهر فقط• وفي نهاية المكالمة أعربت لمحدثتي عن أمنيتي أن تشكل تلك الجائزة ''قيدا'' معنويا على أوباما عند اتخاذ قرارات الحرب والسلام• والحقيقة أن تلك ليست المرة الأولى التي تثير فيها اختيارات جائزة نوبل جدلا حول العالم• فرغم أنها ذهبت أحيانا لعظماء مثل مانديلا، إلا أن غاندي مثلا لم يحصل عليها في الوقت الذي منحت لمجرمي حرب من نوع مناحيم بيغين وهنري كيسنجر• بل إن شيمون بيريز الذي حصل عليها في 1994، استدار بعد ذلك بعامين ليدمر لبنان في عملية عناقيد الغضب عام 1996 التي استخدمت فيها أسلحة محرمة دوليا• ثم إن بيريز كان رئيسا لبلاده حين ارتكبت جرائم حرب في غزة ولم ينطق بكلمة• لكن حصول أوباما على الجائزة كان في ظني بمثابة بيان سياسي تصدره لجنة نوبل، تعلن فيه رأيها في بوش الابن أكثر منه تقديرا لشخص باراك أوباما وإنجازاته• فالحيثيات التي ذكرتها اللجنة كانت كلها في إطار التحول في ''المناخ الدولي'' منذ وصول أوباما للسلطة• فقد تحدثت اللجنة عن إعادة الاعتبار للدبلوماسية والاحترام لدور المنظمات الدولية في عهد أوباما، فضلا عن سعيه لبناء علاقة مع العالم الإسلامي تقوم على الاحترام، إلى جانب دعوته لعالم خال من السلاح النووي• ومما يعزز ذلك الظن أن آخر موعد للترشيح للجائزة كان في فبراير الماضي، أي بعد تولى أوباما الرئاسة بأسابيع قليلة (في العشرين من يناير)، وهو موعد يسبق في حقيقة الأمر إعلان أوباما عن الكثير من المواقف التي ذكرتها اللجنة! ونوبل كانت بالمناسبة قد منحت في 2007 الجائزة لآل جور خصم بوش الرئيسي في انتخابات 2000 التي يعتقد الكثير من الاميركيين وغيرهم حول العالم أنها سرقت من الأول! والحقيقة أن أفضل تعليق على حصول أوباما على الجائزة كان ذلك الذي قاله أوباما نفسه! فقد ألقى الرجل خطابا سياسيا بارعا ينطوي على رؤية سياسية واضحة، ولكنه يحمل في الوقت ذاته نبرة براغماتية لا تخطئها العين• فهو لم يخف أنه فوجئ بالجائزة ويشعر بأنه لا يستحقها، بل يدرك تماما أنها ليست اعترافا بإنجازاته، ثم حلل مغزى حصوله عليها فقال إنها بمثابة دعوة للعمل الجاد، ليس من جانبه وحده وإنما من جانب كل الأمم• ولعل أهم ما جاء في تعليق أوباما، هو أنه كان واضحا تماما بشأن ما تعنيه تلك الجائزة بالنسبة للسياسة الأميركية في عهده• ففي خطاب قبول جائزة ''السلام'' لم يكن مصادفة أن يذكر الرئيس الأميركي العالم بأنه ''القائد الأعلى للقوات المسلحة'' الأمريكية• وكأن أوباما سمع الأمنية التي عبرت عنها للصحافية المصرية، فأراد أن يقول لأمثالي إن علينا أن نخفض من توقعاتنا• باختصار، كان أوباما يعلن بوقار امتنانه للعالم، ولكنه يؤكد برفق أن المحك الرئيسي في قراراته هو مصالح بلاده ولا شيء غيرها•• فعينه لا تبرح الناخب الأمريكي الذي اختاره ويدفع مرتبه!