أصبحت شوارع العاصمة لا تخلو من نساء يمتهن التسول، نجدهم في مواقف السيارات.. قرب المطاعم.. على الأرصفة.. في الحدائق.. لا ملجأ لهن ولا مسكن، يتخذن بعض الأماكن والحدائق المهجورة مكانا للمبيت، يفترشن الأرض ويلتحفن السماء ربما اللقمة، ربما الحاجة، وربما طمع الأسرة أوتفككها، وربما أسباب أخرى تدفع بنساء مسنات وفتيات في سن الزهور إلى طرق أبواب التسول في الشوارع.. في ظل ظروف معيشية صعبة واشتداد حدة الفقر على كثير من الأسر الجزائرية، وبطقوس وعادات تعدّ في نظر البعض سلوكاً منبوذاً ومتدنياً، لكنها بنظر أصحابها الطريقة والحيلة الوحيدة لكسب رزقهم وسد احتياجاتهم التي تزداد كل يوم، امتهنت الكثير من النساء على اختلاف أعمارهن التسول كمصدر للدخل اليومي. حاولنا في هذا الإستطلاع معرفة المزيد عن تسول نساء يافعات، فتيات في عمر الزهور أصبحن صورة متكررة ومشهداً مألوفاً نراه في معظم شوارع العاصمة، جمعتهن الفاقة ودفعهن الفقر.. يرمقن الناس بنظرات مليئة بالتوسل والرحمة والعطف يكسبن من خلالها ما يسد به جوعهن. بدءا من شارع خليفة بوخالفة، وأمام مسجد الرحمة، تجمعت ثلة من النساء في مختلف الأعمار، اقتربنا منهن لمحاولة معرفة واقعهن وأسباب تسولهن. تقول روزة، وهو اسمها المستعار، جاءت من قسنطينة “إن الكثير يعتقد أننا امتهنّا التسول كوظيفة نقتات من خلالها، دون أن يعي هؤلاء كم هو مهين أن نظل متسكعات في الشوارع، يحرقنا لهيب الشمس ويقتلنا البرد وتأكلنا أعين الناس وتنال منا ألسنتهم”. وأضافت روزة:”هل من المعقول أن تكون جميع المتسولات كاذبات وممتهنات وظيفة، فنحن لسنا هنا مفترشات الأرصفة والشوارع، إلا بعد أن أبعدنا المجتمع عنه، ولفظنا بقسوة. كنت أجلس في منزلنا أنا ووالدتي وأخي الصغير، دون معيل، حتى بات العيش شبه مستحيل. فهل نبقى في البيت ونموت جوعا؟ ما هو الحل؟وعليه لم أجد ملاذاً إلا الشارع”. وتشير المتحدثة إلى أنه بعد انتهائهن من التسول “نجتمع ثمانيتنا للنوم وللدفاع عن أنفسنا من الذئاب البشرية التي تترقب لحظة الانقضاض على فريستها”. فيما أكدت حورية في عقدها السادس أنه كان لها بيت في حي مالكي، لكن مع وفاة إخوتها الثلاثة وجدت نفسها ملقاة في الشارع من ظرف أحد الأقرباء وادعائه ملكية المنزل. الأسرة دفعتني إلى التسول سلمى 17 عاما، من بجاية، وجدناها في ساحة الشهداء أقرت بأن والديها مطلقان ولديها ثلاثة إخوة متقاربين في الأعمار.. لم تجد عملا، فهي تحمل شهادة بكالوريا، لكنها لم تستطيع مواصلة تعليمها الجامعي ولم تجد أي عمل - حسب قولها - بحثت عن عمل محترم تسد به جوعها فلم تجد، وحاولت مقاومة ظروف العيش الصعبة ولكن لم تجد من يكفلها ويعيلها حتى إخوتها، فاضطرت إلى التسول. وتضيف سلمى:”في بادئ الأمر كانت هذه المهنة صعبة، وصادفت حياة مختلفة عن التي كنت أعيشها، ولكن بعد ذلك تعودت وتعلمت من الأخريات في هذه المهنة فنون التسول وبيع الجسد للعيش ومواصلة الحياة التي أكرهها بشدة” . وتقول عائشة، البالغة من العمر 16 عاما، إن والدها الذي أحيل على التقاعد قبل فترة هو من يأمرها بالخروج إلى التسول في الشوارع وجلب قيمة القوت اليومي، حيث أن راتبه لا يكفي لإعالة بيت يتكون من سبعة أفراد. فيما تقول نادية، إن والدها يضربها كل يوم إذا رفضت الخروج، ويتحول إلى ثور هائج إذا لم يجد قيمة القوت.. ولا يهمه مصدر المال، بالإضافة إلى تعرضها اليومي للمضايقات من الناس وخاصة الشباب - على حد قولها - فهم لا يرحمون المساكين، ومعظمهم يريد فقط اللهو بالفتيات. اضطهاد منزلي.. وفي زاوية أخرى وفي شارع فرحات بوسعد (ميسونيي) تجلس إحدى النساء أم لأربعة أطفال، بنت وثلاثة ذكور، اعتادت الجلوس في نفس المكان.. من حديثها اتضح أنها كانت تعيش مع أولادها في منزل كباقي النساء، وبعد طلاقها انتقلت للسكن مع أخيها في العاصمة. وبمرارة وألم روت لنا معاملة زوجة أخيها لها طيلة فترة إقامتها عندها وتلذذها في إهانتها، فكان لابد لهذه الأم المسكينة بعد رحلة عذاب مضنية أن يكون مصيرها الشارع، إذ لا دولة تحمي مثل هؤلاء ولا ضمان اجتماعي قادر على أن يمنع كرامة وشرف هؤلاء من أن يذبحان على قارعة الطريق. وحين سألتها عما تنتظره من المستقبل، لم تجد ما تقوله سوى أنها احتضنت ابنتها قائلة إنها لا تنتظر شيئا كونها ناشدت كل من له القدرة على لملمة لحمها وأولادها، بمنحها أي عمل مهما كان.. لكن دون جدوى. الجسد مقابل.. الأكل تقول لامية من مدينة البليدة، في عقدها الثاني، إنها تمتهن التسول كي تسد رمقها من الجوع، وهي لا تكترث بأسرتها، فجميع أفرادها متسولون مثلها، ولا تهتم بالعودة إلى المنزل، لأنه عبارة عن كومة قش تحوي داخلها ثمانية أفراد، فالنوم خارجها مع أي شخص لا يشكل لها أي عائق ولا يشكل لدى أسرتها أي عائق، المطلوب منها أن لا تحمل بجنين أو تخلف طفل حرام.. ما دون ذلك تفعل ما تشاء.. كما تقول. وتشير لامية إلى أنها تواجه العديد من الإغراءات في اليوم الواحد من أشخاص في مستويات اجتماعية مختلفة.. وتظل طوال اليوم في “همّ” اختيار مع من تذهب، من كثرة أرقام الهواتف النقالة، وفي المساء يتم اختيار الشخص الذي تريد قضاء الليل معه.. وهكذا تمر أيامها وسنواتها. لذة عابرة، تقدمها فتيات لم يخلقن عاهرات، ولم يكن في يوم من الأيام “بنات جنس أو هوى”.. كنّ سويات كباقي من هن في أعمارهن، لكنه الفقر الذي ما دخل بلدا إلا وقال للكفر خذني معك، فهل من رجلٍ يقتله..؟ استغلال المتسولات وعند تنقلنا إلى شارع مصطفى فرخوني، حيث تتواجد امرأة أخرى تبلغ من العمر (36) عاماً مع طفلها أمير الذي هو في سن السادسة، وبعد 15 يوما من محاولة التقرب منها، وأخذ ابنها لاقتناء بعض الملابس والأدوات، أكدت أنها تعمل في هذه المهنة منذ ثماني سنوات. وعند استفساري عن سبب توسلها، تعذّر علي أن آخذ منها إجابات ولم أحصل منها سوى أنها أرملة وليس لديها من يعولها أويكفلها. وعندما سألتها عن تعرضها للتحرش والمضايقات، مثلما تتعرض لها بعض المتسولات، نفت بشدة وردت بانفعال.. ما يدل على خوفها من معرفة حقيقة ما يدور في هذا الوسط. وما لفت نظرنا وقوف شخص مقابلها ظهر عليه الترقب والقلق، وعند اقترابي منها أخذ هو جانباً مقابلاً لها، وشعرت بأنها لن تفتح فمها إلاَ بعد إذنه، مما أكد لنا حقيقة المعلومات التي ترددها بعض الفتيات المتسولات، والتي تشير إلى وجود أشخاص يستغلون المتسولات، وبالأخص الشابات منهن. وهذا ما أكدته عجوز التقيتها في نهج عبان رمضان، وهي أرملة ولديها ابنة واحدة متزوجة، بررت عدم تعرضها للتحرش والمعاكسات بكبر سنها وبأنها عجوز لم تعد تتمتع بصحة كافية. وحين سألتها عن إمكانية تعرض المتسولات من الفتيات الشابات وباقي النساء للتحرش والمعاكسات، تهربت بأسلوب ظريف جداً وقالت إنها لا تريد أن تحمل نفسها ذنب أحد، لكن نظرتها أكدت عكس ذلك، وكأنها تتساءل عما تستطيع فعله. النظرة إلى التسول أكدت سهلية زميرلي، أخصائية نفسية، أن هذه الظاهرة تمارسها بعض النساء لتحقيق مكاسب سريعة، تعتمد على استدرار عطف المواطنين واندفاعهم لفعل الخير لما في نفوسهم من طيبة مغروسة، فهم يتعاطفون مع المناظر المحزنة ويثيرهم منظر الدموع في أعين الصغار والنساء. وأشارت المتحدثة إلى أن المتسولات يسلكن طرقا كثيرة للوصول إلى غاياتهن،”ففي الأيام الأخيرة تم إحضار إحدى المتسولات وبعد إخضاعها للمعالجة وظفت لكنها مكثت بعض أيام ورجعت إلى عملها، ويرجع السبب إلى المكسب السريع والأموال التي تجمعها من هذه المهنة”. ومن جهته أكّد عبد اللاوي، مختص في علم الاجتماع، أن الفتاة عندما تقرر أن تمتهن التسول سرعان ما تنحرف وتصبح فريسة سهلة لضعاف النفوس، معتبرا الفتاة التي تتجول في الشارع مستجدية عطف الناس بأنها فتاة “خلعت عنها ثوب الخجل وكل القيم الأخلاقية”. وأوضح المختص أن تنقلها من شارع لآخر كفيل بتعليمها أخلاقيات أبناء الشوارع، وأغلب من يمارسن الرذيلة تحت غطاء التسول غالبا ما يتصيدن فرائسهن من فئة الشباب صغار السن. وفي تشخيصه لهذه الآفة أكد تعكس صورة سلبية وقاتمة عن المجتمع الجزائري، مشددا على ضرورة تعاون كافة الجهات في مواجهة مثل هذه الظاهر السلبية. وأشار إلى أن المتسولات “المهمشات” يشكلن نسبة 20 بالمائة من المتسولين، والبقية من أسر خلعت عن نفسها ثوب العفة والكرامة، كما أن الفقر كان له نصيب في دفع بعض الأسر إلى امتهان التسول خاصة مع غياب فرص العمل لمثل هذه الطبقات، التي تكون غالبا فتياتها قليلات التعليم أو بدون تعليم أصلا.