طرحت في القمة العربية الأخيرة، التي عقدت في مدينة “سرت” الليبية، فكرة، أو مشروع الإتحاد العربي من طرف الوفد اليمني، وهي المرّة الثانية التي يتم فيها طرح هذه الفكرة، لكنها لم تحظَ بالإهتمام الكافي من طرف الملوك والرؤساء العرب، مع أنها مسألة تهمّ الكيانات والشعوب العربية وحتى الأنظمة السياسية الحاكمة، وتستحق التأمل والتفكير، بل والعمل على ترجمتها على أرض الواقع، خصوصاً أن حالة من انسداد الأفق السياسي والإجتماعي تسود النظام السياسي العربي، ومعظم كياناتنا العربية، إن لم نقل جميعها. وتمتلك مسألة الإتحاد العربي وجاهة وواقعية، بالنظر إلى أن عالم اليوم يشهد وجود اتحادات وتكتلات ومنظمات إقليمية ودولية عديدة، مثل الإتحاد الأوروبي، والإتحاد الروسي، وتجمع “آسيان” و”ميركوسور”، ومجلس التعاون لدول الخليج العربي، وسواها من التكتلات الإقليمية الناجحة والمفيدة للدول والشعوب المنضوية تحت مظلتها. ولا ضير من الإستفادة من تجارب هذه التجمعات والتكتلات السياسية والإقتصادية، حيث تعتبر تجربة الاتحاد الأوروبي من أنجعها وأنجحها، كونه يجمع دولاً مستقلة بجملتها، لا تشترك مع بقية أعضاء دول الاتحاد سوى بما يجري الاتفاق عليه داخل هيئات الاتحاد، وبما يتفق مع مصالح عموم دول الإتحاد وشعوبه من سبل وطرق التكامل والتعاون الأمثل، من خلال الاتفاق على وضع قواعد ومعايير صناعية وتجارية ومالية وجمركية وخدماتية، يتم الإجماع عليها، ثم تعميمها وتطبيقها داخل كل بلد بعد تصديق البرلمان عليها أو عرضها على الإستفتاء الشعبي العام داخل كل دولة على حدة. قد لا يتفق الاتحاد الروسي مع مشروع الاتحاد العربي، كونه يتشكّل من مجموعة من الدول التي تنضوي تحت زعامة وهيمنة دولة اتحادية مركزية، لكن أي مشروع يبدأ من فكرة تتحول شيئاً فشيئاً إلى تجربة قابلة للنماء والتطوير، وفي هذا السياق يمكن البناء على ما حققته جامعة الدول العربية من نجاح في بعض المجالات، يمكن تطويرها دون المساس بسيادة الدول العربية القائمة، وسياساتها الخارجية والداخلية، مع الاتفاق على مجموعة مبادئ وقوانين للعمل المشترك، على الصعيد الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، وبما يتفق مع القانون الدولي، الناظم للعلاقات بين الدول العربية، على أسس المواطنة القانونية الدالة على الهوية والانتماء، خصوصاً أن القوميين العرب “الأشاوس” أشبعونا كلاماً كثيراً حول الوحدة العربية، وحول القواسم والمكونات المشتركة، لكنهم تحولوا إلى مقاولين للشعارات الطنانة والكلام الذي لا يجدي نفعاً في الخطابات الرسمية والمؤتمرات والندوات التي تعقد حول “الوحدة العربية” المأمولة والمتخلية، وحول النهوض العربي من دون القيام بأي خطوة في الاتجاه الصحيح. وإن كنا ننظر بإعجاب إلى تجربة الإتحاد الأوروبي، فذلك لأن أي مواطن في إحدى دوله يمكنه التنقل بحرية داخل جميع بلدان الاتحاد الأخرى، دون معوقات وتأشيرات دخول أو منع سياسي أو حظر سفر، كما يمكن لأي إنسان من خارج دوله أن يدخل إلى جميع المدن والبلدات والقرى الموجودة في ثلاثة وعشرين بلداً أوروبياً لمجرد حصوله على تأشيرة “شنغن الأوروبية”، فضلاً عن أن معظم بلدان العالم الأخرى تحاول أن تبرم اتفاقيات شراكة وتعاون مع الإتحاد الأوروبي. غير أن الاتحاد الأوروبي لم يصل إلى ما هو عليه دفعة واحدة، بل كان هناك عمل متواصل وجاد، بدأ بإبرام معاهدة روما التي جرى التوقيع عليها في العام 1957، وكانت بمثابة برنامج عمل للسوق الأوروبية المشتركة، حيث حددت مادتها الثانية هدف تطوير العلاقات الاقتصادية بين الدول الأعضاء، تلتها معاهدة ماستريخت التي وقعت في عام 1992، التي وضعت أهم مبادئ الاتحاد الأوروبي، ودشنت عملية نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، على أن تظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة، بحيث يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي اتحاداً فدرالياً، يتمتع بنظام سياسي فريد من نوعه في العالم. وتمكن هذا الاتحاد من تجسيد خطوات كبيرة وكثيرة، أهمها هي تحوله إلى سوق موحد، ذي عملة موحدة هي الأورو، إضافة إلى سياسة زراعية مشتركة وسياسة صيد بحري موحدة أيضاً. أما فكرة الجامعة العربية، فكانت ولادتها بمثابة ردّ فعل على فشل وموت مشروع إحياء “الجامعة الإسلامية”، بعد أن قرر كمال أتاتورك إلغاء الخلافة، فحملت نشأة الجامعة (1945) أسباب ومقومات عجزها واختلافها، كونها قامت، من جهة أولى، على احترام وحماية سيادة الدولة القطرية. ومن جهة ثانية وضعت من بين أهم أهدافها تقوية العلاقات العربية والتعاون العربي حسبما ورد في المادة الثانية من ميثاقها التأسيسي، لكنها مع ذلك شكلت، على المستوى الحقوقي، مفصلاً في عملية الانتقال من البنى الحقوقية القطرية إلى نظيرتها القومية. وقد واجهت الجامعة العربية معضلات ومآزق عديدة، وكانت حياتها، من لحظة التأسيس إلى اليوم، ميداناً للخيبات والمساومات والتجارب المحدودة، وتحولت إلى مجرد هيئة بيروقراطية تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج حالات التردي والانهيار والهزائم العربية. ولم تتمكن الجامعة العربية طوال تاريخها من النهوض بفعل ما، يؤكد فعاليتها، أو يقنع إنسان الشارع العربي بذلك، بالرغم من القمم العديدة، الدورية منها والاستثنائية، الأمر الذي يدعو إلى التفكير بتحويلها إلى اتحاد أو تكتل عربي، يطمح لتحقيق مصالح الدول والشعوب العربية، من خلال وضع أسس للتعاون بين الدول العربية على مختلف الصعد، والعمل على حلّ المشكلات الداخلية في كل بلد، والتوصل إلى عقد اجتماعي، يحفظ للفرد حقه في الحرية، ويجعله كائناً مستقلاً، بوصفه مواطناً في ظل دولة القانون.