عاد زوال أول أمس، 26 مواطنا جزائريا من ليبيا على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الجزائرية، نقلتهم من مطار الدارالبيضاء الدولي بالمملكة المغربية، بعدما دخلوا إليها بحرا عبر باخرة مغربية في رحلة دامت ثمانية أيام كاملة 26 جزائريا في باخرة مغربية هدّد القذافي بقصفها في عرض مياه المتوسط القنصلية الجزائرية بليبيا تكتفي بتدوين الأسماء دون فعل أي شيء وأكدوا على غياب دور الممثلية الديبلوماسية الجزائرية التي اكتفت بتدوين أسمائهم فقط في كل مرة يحاولون الاتصال بمسؤوليها هناك، لكنهم أجمعوا على المعاناة والظروف المزرية والخوف الذي سكنهم على مدار 40 يوما، والموت الذي رأوه بأم أعينهم في عرض المياه الليبية، بعدما هددت قوات القذافي بقصف الباخرة التي كانت تقل قرابة 2000 لاجئ من جنسيات مختلفة. من بين هؤلاء شاب في الثلاثينيات يقطن بضواحي ولاية تيبازة المدعو "ع. س"، عاد مساء أول أمس إلى مسقط رأسه، بين أحضان عائلته وكنف والديه اللذين عاشا القلق والخوف من مصير مجهول كان يواجهه فلذة كبدهما في دولة "الكتاب الأخضر"، وفي معقل الثورة والثوار، بعدما تحولت ليبيا إلى كتلة من الجمر والنار ترجمتها الضربات الجوية والبرية لقوات القذافي في الميدان، التي أتت على الأخضر واليابس في الأحياء والقرى والمدن الليبية. في أجواء من الفرحة والسعادة المختلطة بدموع الوالدة، وإحساس الأب بعودة الابن سالما معافى، الذي ظهرت على محياه ملامح التعب والعياء والسفر، وحتى الدهشة في بعض الأحيان، من هول ما عاشه لمدة 40 يوما بأكملها، التقت "الفجر" الشاب "ع. س" في منزله ليلا، بعدما بلغها خبر وصوله. بين دوي مدفعية الثوار، وأزيز الطائرات يقول العائد من جحيم ليبيا، الشاب "ع. س" الذي كان يقيم في مدينة "مصراتة" الليبية، بعدما توجّه إليها للعمل هناك منذ قرابة ثلاثة أشهر من دخوله التراب الليبي، إن ليبيا تعيش حربا أهلية وثورة، الدمار، الرماد، جثث مرمية هنا وهناك، مواطنون قضوا نحبهم في المواجهات التي استعملت فيها القوات الموالية للقذافي منذ البداية الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى القصف الجوي الذي استهدف المدنيين العزل الذين احتموا بمئات الثوار ومن مختلف الأعمار، تلمس لديهم الحماس والشجاعة من خلال الإقدام على المواجهة على متن السيارات، حاملين مختلف الأسلحة الرشاشة، وهؤلاء "كنا نراهم ونحن مختبئون في خلف المطعم الذي كنت أعمل فيه رفقة أحد الرعايا الأتراك"، ومن خلال بعض الفتحات في ذلك المبنى الذي يقع وسط مدينة "مصراتة"، التي شهدت أعنف المواجهات بين الثوار والقوات الموالية لنظام القذافي، ولا تزال تعيش أياما حمراء من هول قصف المدافع وصوت الرصاص المنبعث من الرشاشات، "كنا حينها ننتظر الموت والموت فقط"، بهذه العبارة التي كررها الشاب "ع. س" استرسل في تنهيدات الواحدة تلو الأخرى، خاصة وأننا كنا نحتمي خلف جدار المبنى الذي كنا نقيم فيه، لكن الفرصة "سمحت لنا ومن خلال كما ذكرت فتحات المبنى من رؤية أشلاء الجثث المتناثرة هنا وهناك، على وقع صيحات وهتافات الثوار بمواصلة الحرب والنصر وقلب نظام القذافي". يتوقف المتحدث لبعض لحظات ليواصل كلامه مع "الفجر"، أنه مع اشتداد الحرب والمواجهات بين الثوار والقوات الموالية لنظام القذافي، "كان همي الوحيد هو كيفية الخروج من إقامتي بالمطعم الذي كنت أعمل فيه، لكن خوفا من أن يتم القبض علينا من قبل قوات القذافي التي كانت في كل مرة تسمح لها الفرصة بتمشيط وسط المدينة بحثا عن الموالين والمشتبه في تعاملهم مع الثوار، كنت أتردد في ذلك خوفا من أن ألقى مصيرا مجهولا، بعدما سمعنا عن العديد من الاعتقالات والتي كانت تحدث من حين لآخر". مئات الجزائريين عالقون بمدينة "مجمع المحاكم" المخصص للاستنطاق والتعذيب في خضم تلك الأحداث "لم ينقطع أملنا نحن الجزائريين في مدينة مصراتة واشتقنا لرؤية بعضنا البعض، كما كنا قبل اندلاع الحرب في هذه المدينة الصغيرة التي نلتقي فيها مساء"، وهي التي يميزها العدد الكبير للأجانب المقيمين فيها مقارنة بالمواطنين الليبيين، "كنا نتحين أي منفذ نسلكه من أجل مغادرة المنطقة والالتحاق إلى مكان آمن للعودة إلى الجزائر وطننا، الذي وبالرغم من وجود ممثليات ديبلوماسية جزائرية في ليبيا، "إلا أنها لم تقم بعملها تجاهنا كرعايا مقيمين في ليبيا، وكجالية لنا الحق في حمايتنا والتكفل بنا"، واقتصر دور موظفيها العاملين هناك في حال الاتصال بهم وتكرار المحاولة إلى تدوين المعلومات الشخصية ومكان الإقامة فقط، "دون أن يتبع ذلك أي تحرك لإنقاذنا وإخراجنا من مدينة مصراتة التي كانت تشتعل لهيبا، وزاد خوفنا بعد توالي الأيام مع اشتداد القصف والمواجهات". لكن وبعدما "بلغنا خبر رسو باخرة مغربية بميناء مدينة مصراتة الليبية الساحلية لنقل الرعايا المغاربة، وبعد تفكير قررت أنا و26 جزائريا المغامرة بالهروب والفرار من جحيم نيران القصف المتبادل نحو الميناء الذي يبعد عن مكان إقامتي حوالي 15 كلم مشيناها سيرا على الأقدام، تارة نختبئ وأخرى نجري، وأحيانا نصادف في طريقنا الثوار وقوات القذافي"، وكنا "نتفاداهم خوفا من توقيفنا واعتقالنا"، حيث تم القبض على بعض الرعايا من جنسيات مختلفة وتم اقتيادهم إلى وجهات مجهولة، ومنها حسب ما ذكره المتحدث، كما رواه له صديقان من جنسية مغربية تم اقتيادهما إلى أحد المراكز السرية للاحتجاز، يعرف باسم "مجمع المحاكم"، يخضع فيه المقبوض عليهم إلى الاستنطاق والتعذيب والقتل، وشاءت الأقدار أن يطلق سراح المغربيان، بعدما عانوا ويلات العذاب وهول ما شاهدوه ليعودا إلى مصراتة مجددا، يضيف العائد. تدخل المملكة المغربية حال دون قصف قوات القذافي للباخرة المتجهة نحو ميناء "طنجة" ويواصل الشاب حديثة ويقول إنه بعد ساعات من السير "تمكنا أخيرا من الوصول إلى ميناء مصراتة"، حيث كانت الباخرة المغربية راسية تنتظر المئات من الرعايا المغاربة، وبعدما شاع خبر الباخرة المغربية تنقل المئات من الرعايا من مختلف الجنسيات، ومصريين، وتونسيين إلى الميناء لعلهم يظفرون بفرصة للنجاة على متنها، وبعد أخذ ورد، قام طاقم الباخرة المغربية القادمة من ميناء مدينة طنجة بالسماح لقرابة 2000 لاجئ من ركوب الباخرة. انطلقت الباخرة المغربية متجهة وبعد قطعها لمسافة 4 كلم، "تفاجأنا بتوقيفها في عرض البحر من قبل القوات الموالية للقذافي، التي حاصرتها بمساعدة المروحيات في الجو"، الأمر الذي اضطر طاقم الباخرة المغربية للتوقف وإلا فإنها ستتعرض للقصف، وبعد برهة من الزمن، وصلت بعض القوارب العسكرية ونزل منها ضباط من الجيش الليبي وصعدوا إلى الباخرة وبدأوا يتبادلون الكلام مع ربان الباخرة، واشتدت حدة الحديث بين الطرفين، حيث وصل إلى "مسامعنا أن قوات القذافي لن تترك الباخرة تخرج بسلام من المياه الإقليمية لمدينة طرابلس"، حيث كانت متوقفة، ليشرع مباشرة قبطانها في الاتصال بالسلطات في المملكة المغربية، عندها صعد أحد الضباط الليبيين، "أعتقد أنه برتبة رائد واستفسر عن الجزائريين الموجودين على سطحها، فقمنا حينها من مكاننا وكان عددنا كما قلت 26، وشرع الضابط رفقة معاونيه في استجوابنا وأخذ معلومات من كل واحد منا"، لكن مشيئة الله كانت أكبر من ذلك ليتم تحرير الباخرة بعدما كللت الاتصالات التي أجراها قبطان الباخرة مع سلطات المملكة المغربية التي تكون اتصلت بدورها بالنظام الليبي. وفي رحلة الباخرة التي كاد ينفد وقودها "توجهنا إلى ميناء صقلية الإيطالية حيث تزودنا بالوقود، وواصلت الباخرة سيرها لثماني أيام كاملة، نفكر فقط في كيفية الوصول آمنين إلى المغرب"، و"أخيرا تمكنّا من النجاة، لما وصلنا إلى ميناء طنجة"، لتشرع بعدها السلطات المغربية التي سارعت إلى التكفل بكل اللاجئين والرعايا دون استثناء وتقديم الإسعافات، و"تحويلنا إلى الفنادق لأخذ قسط من الراحة جراء التعب والحالة النفسية الصعبة التي عشناها خلال أيام تواجدنا بمدينة مصراتة من جهة، ورحلة 8 أيام على متن الباخرة المغربية". ويواصل "ع.س"، في اليوم الموالي "تم نقلنا إلى مدينة الدارالبيضاء، وتم استقبالنا من طرف أعضاء الممثلية الديبلوماسية الجزائرية هناك"، حيث بادر أعضاؤها إلى "الحديث معنا وحمدوا الله على سلامتنا"، وبعد استكمال إجراءات السفر، قام هؤلاء وبعد وصول طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الجزائرية إلى مطار الدارالبيضاء، قاموا "بحجز أماكن لنا على متنها، لتكون رحلتنا الموالية نحو الجزائر"، وحطت يوم أول أمس، في حدود الزوال بمطار هواري بومدين الدولي بالعاصمة. كلمات أخيرة رددها الشاب "ع.س" في حديثه ل"الفجر"، لما قال "لن أنسى التجربة، ولن تمحى من ذاكرتي كل الأحداث التي عشتها، والصور التي رأيتها لمدة 40 يوما بمصراتة الليبية مهما حييت".