يستعيد فيصل وارث في روايته "أوكر: حب إتيان دينيه" - باللغة الفرنسية - الصادرة عن البرزخ عام 2003م، فصولا هامة من التاريخ السوسيو الثقافي لمدينة بوسعادة خلال بداية القرن في قالب روائي يدل على احتفاء عاشق واشتغال جاد في سيرة المكان والإنسان بهذه الواحة، بدءا من عنوان الرواية (أوكر) ذي الدلالة اللونية اللصيقة بتراب بوسعادة وعمرانها، مانحا إياها بعدها التشكيلي الذي تأسست عليه كموضوع وكهاجس محوري. لقد شكلت بوسعادة مرجعية تشكيلية ونصية للكثير من أدباء وفناني الإشتشراق الإفريقي، من أمثال أندري جيد وموبازان والكاتبة الرحالة ايزابيل إيبرهاردت.. غير أن اسم بوسعادة ارتبط عضويا بالرسام الفرنسي المسلم ناصر الدين إتيان دينيه، الذي اعتبرها جنته المفقودة وفردوسه المنشود، وبريشته استطاع أن يفجر سحرها ويخلد اسمها باللون والضوء. تقترح علينا رواية "أوكر" بيوغرافيا فنتازية لإتيان دينيه، مشددة على الأبعاد الجمالية والرمزية فيها، والتي تنسجم أكثر مع المسعى الروائي، ولكنها بالتأكيد هي الأكثر مقاربة لسيرة هذا الفنان الحقيقية، ولم تستطع الإفلات من النظرة الإيكزوتيكية التي ظلت المدينة رهينة لها. إن الرؤية التاريخية الأسطورية هي الأكثر حضورا في هذه الرواية، بل إنها تأريخ محتشم يتوازى فيه المساران التاريخي الواقعي والتخييلي، لذلك فإنها تأخذ شكل المذكرات الحميمية للفنان أثناء إقامته بالواحة أو تواجده بفرنسا، وتتناول حكاية حب تجمع بين إتيان دينيه و( شلبية ) المرأة البوسعادية، وسط معوقات تتصل بالنسيج الاجتماعي التقليدي، ووسط أجواء أقل ما يقال عنها بأنها سحرية وشعرية. تعتمد الرواية على على بناء حلزوني معقد بحيث تتداخل الأحداث والأزمنة من الماضي البعيد للواحة، خلال بداية القرن فترة إقامة الفنان بها، وتحيلنا على الكثير من تفاصيل الحياة بها، بمعمارها وأزيائها، وعاداتها وتقاليدها وطبيعتها وواديها الذي يشكل بؤرة الحياة بها، ليعود إلى حاضر بوسعادة خلال عشرية الدم، حيث يتعرض متحف ناصر الدين دينيه إلى عمل تخريبي، لذلك تغامر (لدمية ) بطلة الرواية مديرة المتحف، أثناء احتراق المتحف بإنقاذ مخطوطتين كانتا محفوظتين بالمتحف، تمثل إحداها مصحفا مكتوبا بخط ومنمنمات ناصر الدين دينيه نفسه، بينما تبدو الثانية مذكرات للفنان الشخصية، وهي اللحظة التي تمثل الحبكة والمسوغ الرئيس للاشتغال على هذه الموضوعة تحديدا، لينتقل بعدها إلى سرد حياة (الصوار الرومي) على حد تعبير الأهالي، ومذكراته بالمدينة الملهمة.. كل ذلك في خضم من الأحداث والوقائع التي يسهم في صنعها شخوص حقيقيون، مثل سليمان بن إبراهيم وزوجته فطوم وآخرون من صنع مخيلة الروائي، الذي يشكل ملامحهم انطلاقا من دراسة لوحات دينيه، مثل الراقصة زيدانه وامباركة الشوافة والفردي.. وعلى الرغم من أن الروائي يؤكد على أن الرواية ليست سيرة لحياة دينيه بالمعنى الحقيقي، بل هي استيحاء حر يتجاوز الواقع، إلا أنه من الصعب إقناع القارئ بذلك، بالنظر إلى الحفر العميق والدقيق الذي قام به الروائي في الذاكرة الجماعية المتواترة عن الفنان وإطاره الزماني والمكاني.. فضلا عن تلك الجزئيات والتفاصيل الملتقطة بدقة وصفية مبهرة، تضعك في التباس بين ما هو واقع وما هو متخيل. ومع ذلك فإن هذه أول مرة تكتب فيها بوسعادة نصا روائيا يشع بالإيحاءات السردية المكثفة، إذا استثنينا نص خضرة راقصة أولاد نائل لإتيان دينيه نفسه. أحمد عبدالكريم