"طلقت السياسية بعد الصراعات التي عرفها مجلس الثورة" "تاريخ الثورة كتب والصحافة أعطته أكثر من حقه" ! عرفه الجميع بكتابه ”مدخل إلى علوم الإعلام والاتصال” الذي لازال إلى وقتنا الحالي مرجعا علميا لابد من الرجوع إليه رغم التطورات المتواصلة التي يعرفها هذا المجال، إلا أن غالبية الصحفيين وخريجي معاهد الإعلام يعلمون أنه المجاهد ”سي مبارك” الذي رافق العديد من قيادي الثورة وكان له دور بارز في الإعلام. الحديث إلى الدكتور المجاهد مفتوح على مداخل عدّة، عاد بنا إلى حزب الشعب وأسراره ونكساته وإلى الثورة وقوتها وصراعاتها، كما تحدث عن افتتاحية ”الخبز المسموم” التي أوقفت صفقة بين بورقيبة وفرنسا على حساب الجزائر، كما تطرق إلى عراقيل الحسن الثاني.. يعرف الكثيرون أن بداياتك النضالية كانت في حزب الشعب، هذا الوعي المبكر جعلك تعيش النكسات والصراعات قبل اندلاع الثورة، حدثنا عن تفاصيلها ؟ ما أود التأكيد عليه هو أن الأزمات التي كانت في الحزب كانت في بعض الأحيان لا تصل إلى الجميع، لكن رغم ذلك عشت الأزمات الداخلية كموقف الأمين دباغين عندما فصل من الحزب وبعدها الأزمة البربرية، واكتشاف المنظمة السرية والاعتقالات التي تمت ضد أعضائها. وللعلم، فإن حزب الشعب كان مشكلا من ثلاثة مستويات، الأول هو الهيكل السياسي والممثل في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، والمستوى الثاني يتمثل في حزب الشعب السري وعمله التحسيسي، أما المستوى الثالث فهو المنظمة الخاصة التي كانت إلا لأصحاب الخبرة العسكرية والسياسية والمناضلين السريين القدامى، وبعد أربع سنوات التحقت بالجامعة في العاصمة، وواصلت نضالي السياسي، والتزمت رفقة زملائي الطلبة الحياد حينما قامت الأزمة بين المصاليين والمركزيين واعتبرنا أن ذلك سيضر بالحزب وأهداف الحركة الوطنية. ويمكن أن أقول أنه حتى عام 1955، كانت تنتاب الكثيرين شكوك حول هذه الثورة، ونحو 12 شخصا من المناضلين البارزين رغم إيمانهم بضرورة العمل المسلح، إلا أنهم لم يلتحقوا بالثورة نتيجة الشكوك التي كانت تنتابهم مخافة أن يتعرض الحزب إلى خيانة جديدة. ووقتها عندما اتصلت ببعض المناضلين، قالوا إن هذه الثورة مغامرة ومن قام بها ؟، ومن حقهم أن يشكوا بسبب خبرتهم النضالية، وهذا انطلاقا من تجربة كل واحد، فبالنسبة لي كنت مقتنعا بعد قيام الكفاح المسلح في تونس والمغرب أن هذا الخيار هو الوحيد أيضا للجزائريين. وأنا شخصيا رغم إيماني بحتمية الخيار العسكري لإخراج الاستعمار لم ألتحق بالثورة، إلا بعد لقائي بعمارة رشيد الذي كنت أعرفه أنه شخص صادق ووطني، فسألته هل تعرف هؤلاء الذين فجروا الثورة، فأجاب بنعم وأقام لي اتصالا مع مناضلين، ولكن دون أن أسأله من معك، وطلب مني حينها تجنيد المناضلين الذين كانوا في حزب الشعب للالتحاق بجبهة التحرير الوطني. وفي هذه الفترة بدأت الممارسة الإعلامية الميدانية لي، وفي حزب الشعب كان نوع من التكوين الإعلامي الدعائي مع بن يوسف بن خدة وعبد الرحمان بن كيوان الذي كون لجنة إعلامية في حزب الشعب. وبعد الثورة كيف كان نشاطك النضالي؟ بعدها تحصلت على ليسانس في الأدب العربي، وعينت كأستاذ في مليانة في أكتوبر 1955 بثانوية فروخي حاليا، وفي جوان ألقوا علي القبض بعد إضراب الطلبة في19 ماي، ثم نفوني عن العاصمة، وأرغموني على ركوب القطار والذهاب إلى وهران رغم مطالبتي بالعودة إلى قسنطينة، وفي محطة وهران اعتقلت من جديد حيث مكثت فيها ليلة واحدة، لأسافر بعدها إلى فرنسا التي كان لي أخ يدرس هناك، وفي باريس مكثت شهرين والتقيت ببلعيد عبد السلام وعرفني بأحد المحامين، لكن أنا أردت الاتصال بالجبهة، وكنت أريد أن أذهب إلى المغرب، لكن كان ذلك يتطلب جواز سفر، فسافرت إلى تونس التي كان السفر إليها بدون جواز، ومنها سافرت إلى المغرب. وكيف كان نشاطكم في المغرب خاصة في مجال الإعلام الثوري ؟ وصلت إلى تونس في سبتمبر 1956 وكانت وقتها أزمة كبيرة قام بها أحمد محساس وعبد الحي ضد عبان رمضان، ووقع انقسام وسط قيادات الثورة، وهي أزمة أكبر من أزمة حزب الشعب، وعندما وصلت إلى المغرب التقيت بشخص يسمى علال الثعالبي كان من رفقاء بوضياف، فاتصلت به، وبعد 3 أيام قال لي ستسافر، فظننت أن سفري سيكون إلى الجزائر، لكن أخذوني إلى تطوان في شمال المغرب، ووجدت هناك علي هارون، وكان مدير جريدة المقاومة الجزائرية، فطلب مني العمل معهم والتي كانت تصدر بالعربية والفرنسية، وبعد مجيء وفد من الجزائر أتوا بجريدة المجاهد، وطلب منا إيقاف إصدار جريدة المقاومة التي كانت تصدر في المغرب وتونسوفرنسا، وبدأنا في تيطوان في العدد الثامن من يومية المجاهد بعد صدور 7 أعداد منها في الجزائر. ويشار إلى أن طاقم المقاومة كان من ستة أشخاص وهم علي هارون والعياض بوعبد اللي، وبوزاهر حسن، وعلي عسول، وأنا والراقنة فاطمة، إضافة إلى عاملين يسميان عمار وعاشور، وبعدها أضيف لنا رضا مالك كمسؤول عن الجريدة وفرانس فانون كرئيس تحرير للقسم الفرنسي، ومحمد الميلي رئيس القسم العربي وكانت تطبع بمقياس 60/،40 وتوزع في الخارج عن طريق الجو ثم تم تقليص الحجم، وكنا نطبعها في المغرب عند الإسبان الذين لم يضايقونا مطلقا، أما الطبعة التي كانت ترسل إلى الجزائر فكانت في ورق شفاف لا يرى عليه خط الكتابة، وكانت توزع في الجزائر حوالي 5 آلاف نسخة. وبعد الانقلاب الذي جرى في 1957 في قيادة الثورة ضد عبان رمضان، طلب من هذا الأخير السفر إلى المغرب، إلا أنه رفض وفضل تونس، وبعد سلسلة من التعيينات، أتى لمين بشيشي ومجموعة أخرى من المناضلين وتمت المطالبة بإصدار الجريدة من تونس، حيث كانت تنقل نسخ المغرب إلى الجزائر ومن ثم إلى تطوان، وقد بقيت أنا وعلي عسول كمشرفين على مكتب المغرب، وقد اقترحنا خلال تلك الفترة عليهم أن يتم الطبع بتقنية جديدة كانت تستعملها جريدة العلم المغربية لسان حال حزب الاستقلال. بما أن الجريدة كانت تحط في الجزائر قبل نقلها إلى المغرب، ألم تتفطن القوات الاستعمارية لذلك وتحاول إيقاف صدورها؟ أجل لقد استطاع العدو معرفة ذلك وقام بتحريف ثلاث نسخ والتي صدرت على طبيعتها المحرفة في المغرب دون أن ننتبه لذلك رغم شكوكنا، إلا بعد تحريف خطاب فرحات عباس حول تقرير المصير، والذي جاء ردا على بعض البنود التي تحدث عنها ديغول، وبعد تفطننا لذلك كتبنا تصويبا، وكشفنا الحقيقة فانقلب السحر على الساحر بالنسبة للاستعمار. هل اقتصر نشاطكم الإعلامي على الصحافة المكتوبة فقط، أم تعداها إلى وسائل أخرى؟ خلال وجودنا في المغرب كانت الإذاعة المغربية وإذاعة تيطوان تخصص ساعة لبرنامج تحت عنوان ”صوت الجزائر”، والذي كان يستمع له في المغرب وفي الشمال الغربي الجزائري، وكان يقدمه علي مرحوم وهو صهر العربي بن مهيدي، وكنت مع عسول من الذين يساعدونه في كتابة الخطاب والبرنامج الذي يذيعه. والحقيقة تقال إننا تلقينا كل التسهيلات في المغرب من قبل الراحل الملك محمد الخامس، ورغم العراقيل التي وضعت في طريق الثورة بعد مجيء الحسن الثاني من خلال تطويقه لعملية تهريب السلاح نحو الجزائر، إلا أن ضغطه لم يصل ليطال العمل الإعلامي الذي كنا نقوم به. خلال عملكم في الإعلام إبان الثورة، هل تتذكر موضوعا أو مقالا استطاع أن يوقف ما كان يحاك ضد الثورة ؟ رغم العمل التوعوي والتحسيسي وكذا إبراز جرائم الاستعمار الذي كانت تقوم به جريدة المجاهد، إلا أن أبرز مقال أحدث ضجة كبيرة هو افتتاحية ”الخبز المسموم” التي كتبها على ما أعتقد رضا مالك حول المفاوضات التي بدأها الرئيس التونسي الأسبق لحبيب بورقيبة مع فرنسا الاستعمارية لنقل البترول الجزائري عبر الأراضي التونسية، والذي بموجبه ستتلقى تونس مقابلا ماليا لسماحها بمرور شحنات البترول على أراضيها، وهو الأمر الذي كانت ترفضه جبهة التحرير الوطني، لذلك جاءت افتتاحية المجاهد بعنوان ”الخبز المسموم” في إشارة إلى المقابل الذي سيتلقاه التونسيون، وكان لهذه الافتتاحية صدى كبير في تونس، حيث رفض التونسيون ذلك، ما دفع ببورقيبة إلى العدول عن مفاوضاته مع فرنسا ولم يذعن لضغوطها. رغم نشاطكم الثوري الذي كان إلى جانب قيادات بارزة في الثورة، إلا أن سيرتكم الذاتية خالية من النشاط السياسي، فما سبب ذلك ؟ غداة الاستقلال طلقت السياسة، بعد الصراعات التي عرفها مجلس الثورة في مؤتمر طرابلس وغيره، وتوجهت إلى التدريس في ثانوية الإدريسي بالعاصمة، رغم أن محمد الصديق بن يحيى الذي كان يحبني كثيرا طلب مني العمل معه في سفارة الجزائر بروسيا، إلا أنني رفضت لعلمي أن تعيينه كان بهدف إبعاده، وحذرته من ذلك، وبعد سنوات عاد إلى الجزائر، ثم التحقت بالمدرسة الوطنية للأساتذة، وبعد استلام هواري بومدين الحكم عين محمد الصديق بن يحيى وزيرا للثقافة والإعلام، فدعاني هذا الأخير للالتحاق بالوزارة في 1966 وكلفني بإدارة النشر والتوزيع، وأسسنا مجلة ”آمال” بالعربية و”بروماس” بالفرنسية، ووجهتا بالتحديد لنشر القصة القصيرة والقصيدة والمسرح، وفتحت الأبواب للكتاب الشباب، حيث نشرت على سيبل المثال لعز الدين ميهوبي، ومرزاق بقطاش. وكيف عدت للصحافة والإعلام بعد الاستقلال؟ عندما عين بن يحيى وزيرا للتعليم العالي استدعاني من جديد وكلفني بإدارة المدرسة الوطنية للصحافة القسم العربي التي كانت وقتها تعيش أزمة، وعندما قصدتها رفضني وقتها رشيد توري الذي كان مديرا للجامعة، وكان محبا للفرنسية أكثر من العربية، ولم يقبل بي إلا بعد تدخل بن يحيى، وبعدها تسلمت مهمتي، لكن عندما وصلت إلى المدرسة كمدير تم إعطائي مكتبا بدون نافذة ولا يتوفر على شروط العمل، لكن تركيزي على العمل جعلني لا أعطي لذلك أهمية، فوضعت برنامجا جديدا للقسم العربي مماثلا للقسم الفرنسي، وأدخلت مادتي علم الاجتماع الإعلامي والاقتصاد الإعلامي، إضافة إلى إعادة تنظيم فنيات التحرير، كما أصدرت مجلة للجامعة. وبعد إلحاق قسم الإعلام بقسم العلوم السياسية تولى رشيد توري إدارة الكلية، وأنا لم أقتنع مطلقا بعمله فذهبت إلى باريس لتحضير الدكتوراه، رغم تمسك بن يحيى بي في برنامج التعريب الذي أقنع به بومدين وشرع في تطبيقه. وبعد عودتي، وجدت فوضى عارمة في معهد الإعلام، وطلب مني تدريس نظرية الإعلام، لكن بدلت المادة إلى نظريات الإعلام، وبعد ثلاث سنوات قمت بجمع الدروس والمحاضرات في كتاب حمل في البداية عنوان ”نظريات الإعلام”، لكن الدكتور عزي عبد الرحمان اقترح أن يكون ”مدخل إلى علوم الإعلام والاتصال” والذي بقي مرجعا إلى غاية اليوم. بعد هذه المسيرة النضالية والجامعية الطويلة، هل ترون أن الجزائريين قاموا بكتابة تاريخهم كما يجب، والصحافة أعطت التاريخ حقه؟ بالنسبة لي، أعطته أكثر من حقه، وأنا ضد من يقولون يجب أن نكتب الثورة لأنه غير مكتوب، فهذه مغالطة يجب الخروج منها، هل يوجد من لا يعرف تاريخ الثورة، فهناك تاريخ وتاريخ، فإذا كان المقصود الحكايات الصغيرة فهي لا تنتهي، فالرسول صلى الله عليه وسلم مازلنا إلى الآن نتعرف على جزئيات حياته، والتاريخ هو الخطوط الكبيرة والمراحل الهامة، والادعاء بعدم كتابة التاريخ هو خرافة، فالجميع يعرف أول نوفمبر ومؤتمر الصومام وإضراب الطلبة، أما التفاصيل الصغيرة فتحتاج إلى آلاف السنين لكتابتها، فما عاشه حي أو قرية هي حكايات صغيرة ولن تنتهي. بالحديث عن التاريخ والثورة، هل ترى أن ما يحدث في البلدان العربية أنه ثورات عربية؟ هي خرافات يضحك الغرب بها علينا لتقليده، ولا وجود لأي ربيع عربي، وبالنسبة لي فإنني متخوف من الوضع في تونس، وأقل بالنسبة لمصر لأن تنظيم الإخوان مهما توافقنا مع ايديولوجياته أو لا، فإن له تاريخا ومتجذر في المجتمع المصري، لذلك سينظر للأمور باستشرافية، والوضع في تونس يخيفني، أما ليبيا فهي كارثة. التاريخ هو الخطوط الكبيرة والمراحل الهامة، والادعاء بعدم كتابة التاريخ هو خرافة، فالجميع يعرف أول نوفمبر ومؤتمر الصومام وإضراب الطلبة، أما التفاصيل الصغيرة فتحتاج إلى آلاف السنين لكتابتها، فما عاشه حي أو قرية هي حكايات صغيرة ولن تنتهي.