تصادف وأنا في أول يوم لي في دمشق صيف 2007, أن استقلت سيارة أجرة لتوصلني إلى حي الصالحية حيث كنت أدرس, سألني سائقها عن بلدي بعد أن تأكد أن لهجتي تختلف عن لهجة أهل الشام, أخبرته أني من الجزائر, تهلل وجهه سرورا وقال: إذن لديّ سؤالان لك وإن أجبتني عليهما أعطيك كل ما تريد, شعرت من طريقة كلامه كأنه أراد الإيقاع بي في فخ ما, ودون مقدمات طرح سؤاله الأول: كم يبلغ عدد شهداء الجزائر؟ تعمدت التريث في الرد لأجد له جوابا يخمد تحاذقه, أجبته: قيل أن عددهم مليون ونصف المليون شهيد, ولكن الرقم فيه الكثير من الإجحاف في حق الملايين الأخرى من الشهداء الذين طهروا بدمائهم تراب الجزائر منذ عام 1830... وقبل أن أكمل كلامي قاطعني قائلا: أما السؤال الثاني: هل لك أن تذكر لي أسماء هؤلاء الشهداء؟ أطلق بعدها قهقهات من أعماق قلبه ونظر إلي من المرآة العاكسة كأنه أراد أن يتلذذ بطعم انتصاره عليّ, أدركت من ثاني سؤاليه أنه حرص أن يكون أول سوري يسمعني آخر نكتة يتداولها أهل الشام, ولأني أحب النكت مثله سألته هل لديك متسع من الوقت لأسمعك أسماءهم؟ ابتسم وأدرك أخيرا أنه لن يهنأ أبدا بنصره المزعوم عليّ ... ولكن .. لن أخفي عليكم أن سؤاله الثاني جعلني أقف مع نفسي مليًا, ألا يجب أن نعرف أسماء من آثروا الموت لنحيا؟ وبعد تفكير عميق عقدت العزم أن أبحث في الأمر, هي رحلة قد يصعب الوصول إلى نهايتها ولكن الشرف كله في المحاولة. وجهتي الأولى كانت متحف المجاهد بمدينة برج بونعامة, وأنا أتجول بين أروقته أتأمل بإجلال صور الشهداء وسيرهم وتاريخ كفاحهمأسمعني القيّم على المتحف يومها قصة جعلتني أتزلزل في مكاني وجعلت الدموع تعزو عينيّ, قال لي أنه لا يعرف كل التفاصيل ولكنه أرشدني إلى من يمكنه إرواء فضولي, وأخبرني أن مدير متحف المجاهد بتيسمسيلت يعرف القصة برمتها. الوجهة هذه المرة كانت المتحف عينه, سألت مديره عن القصة ذاتها التي جعلتني أشد رحالي إليه, أخبرني أن بداية الحكاية كانت بزيارة إحدى السيدات من بجاية تقتفي آثار والدها الذي إنقطعت أخباره إبان الثورة التحريرية والذي كان جنديا ضمن جيش الاحتلال بمنطقة الونشريس, قالت السيدة أن عمل والدها ضمن جيش العدو جعلها تشعر بالعار لأن المجتمع لم يرحمها يوما كونها ابنة الخائن, تغيرت مشاعر المرأة رأسا على عقب بعد العثور على وثائق وشهادات حية تؤكد أن والدها قد التحق بالثوار في جبال الونشريس وقد استشهد في إحدى المعارك الطاحنة بعد أن أبلى شجاعة في القتاللا مثيل لها, لم تسع الفرحة قلب السيدة, وهي تسمع رفاق والدها في الكفاح يتحدثون عن بطولاته وعن يوم استشهاده, ولم تقدر على منع دموع الاعتزاز وهي تقف أمام قبره في مقبرة الشهداء. تبعد المقبرة بضع خطوات عن محتشد بعلاش, هو أحد المعتقلات التي أنشأها جيش الاحتلال في منطقة الونشريس لعزل أهالي القرى عن الثوار لمنع وصول معوناتهم إليهم, على بعد بضع كيلومترات من المكان يوجد معتقل آخر, مكتب التحقيقات الثاني بمدينةبوقايد, هذا المكان الذي مجرد ذكره يشعرك بالرعب, يروي لي جدي لأمي أحمد بن محمد كيف أمضى آخر سنتين من عمر الاحتلال الفرنسي في مكتب التحقيقات الثاني, ويسترجع من ذاكرته القوية تلك الأيام القاسية التي عاشها في ذلك المعتقل, يقول أن الثورة الجزائرية ما كانت أبدا لتنجح لولا احتضان الشعب لها, وهي التهمة نفسها التي اعتقل لأجلها, دعم وتوفير الطعام للمتمردين, يقول أنه بمجرد إدخاله المعتقل تم تجريده من ملابسه وتم ربط كل أطرافه بعصا ثم انهالوا عليه ضربا, والضرب كان أهون العذاب, فقد تفنن العدو في تعذيبنا, ولعل أكثر أسلوب كان يرهبني هو استعمال مولدات الكهرباء, فبعد أن تبلل أجسادنا يتم وصل أسلاك الكهرباء بجميع النقاط الحساسة بالجسم وتبدأ رحلة عذاب لا يطاق, يصمت جدي برهة ويركز بصره في جبال الونشريس والدموع تتلألأ في عينيه ثم يتنهد تنهيدة ويقول لو تعلم يا ولدي أني كنت أدعو الله من كل قلبي أن يقبض روحي فقط لكي تنتهي رحلة العذاب الرهيبة, يسترجع جدي من ذاكرته موقفا رواه لي العديد من المرات أنه في لحظة ثورة منه أثناء تعذيبه راح يشتم فرنسا وكلابها ويتحداهم أن يطلقوا عليه وابلا من رصاص إن كانوا حقا رجالا, لكن الضابط يومها قال له أن ثمن الرصاص أغلى بكثير من ثمنك, هو رد يلخص تاريخ فرنسا الاستعماري. شاء الله تعالى أن يطيل في عمر جدي ليبلغ هذه السنة التسعين من عمره ليكون شاهدا وشهيدا على حقبة من تاريخ الجزائر, يقول جدي أنا لست ابن الثورة كما يصف الكثيرون أنفسهم, بل الثورة ابنتي فقد ولدت في الفاتح من نوفمبر 1954 وأنا ولدتُ قبلها في نفس اليوم في 1922, في هذا التاريخ تحتفل الجزائر هذه السنة أمام العالم بذكرى 58 لثورتها المجيدة, وفي التاريخ ذاته يحتفل جدي في صمت بتسعين سنة من عمره طغى عليها البؤس والحرمان ووطن جاحد وناكرللجميل, وللحديث بقية.