تناول المجاهد عبد العزيز وعلي في كتابه ”أحداث ووقائع في تاريخ ثورة التحرير” (*) بالولاية الثالثة، ما يتعلق بهذه الولاية عموما ما بين 1954 و1962. لكن تناول بتفصيل أكثر ما يتعلق منها بالمنطقة الثانية التي تمتد من غرب بجاية شمالا إلى مشارف سيدي عيسى جنوبا، مرورا بحوض الصومام وامتداداته. كان الكاتب فيها قدم شاهدا وراويا في آن واحد، فأفادنا بمادة خام غنية بالمعلومات التي لاتخلو من أهمية، لذوي الإختصاص من الباحثين والمؤرخين.. وقد اخترنا أن نقف معه في هذه الحلقة عند ثلاثة محطات هي: انطلاقة ثورة فاتح نوفمبر 54 بحوض الصومام، لقطات من المؤتمر الذي استضافته المنطقة من 20 أوت إلى 5 سبتمبر 1956، وأخيرا ”قضية ملوزة” التي يقدم حولها رواية مفصلة بالأرقام، بعد أن ظل كثير من المؤرخين والكتاب، يعتمدون فيها على الدعاية الفرنسية التي انقلبت على أصحابها في نهاية المطاف: لقد أشهد لاكوست الوزير المقيم الصحافة الدولية والعالم من ورائها على مجزرة جيش الإحتلال في ملوزة (زهاء 300 قتيل حسب الكاتب)، وحاول إلصاقها بجبهة التحرير الوطني، متجاهلا تماما العقوبة المسلطة من جيش التحرير على دوار بني يلمان بسبب انحياز بعض أعيانه إلى ”الجنرال” بن لونيس (86 قتيلا حسب تقرير المنطقة والولاية).. إعداد محمد عباس أوعمران يدعو أولبصير للثورة فيشترط.. ”موافقة الحاج”! لماذا لم تشارك ناحية الصومام في عمليات ليلة الفاتح نوفمبر 1954؟ يفهم من العناصر التي قدمها المجاهد عبد العزيز واعلي في كتابه، أن الناحية لم تتلق رسالة الثورة المبيتة ليلة الفاتح نوفمبر 54، لامن بجاية التابعة للمنطقة الثالثة، ولا من سطيف نقطة تقاطع المناطق الأولى والثانية والثالثة. ومن أسباب ذلك، أن المناضل العربي أولبصير رئيس دائرة حركة الإنتصار رئيس دائرة حركة الإنتصار آنذاك اِنحاز إلى صف زعيم الحركة الحاج مصالي، وينقل الكاتب في هذا الصدد عن عمار أوعمران أنه قابل قبيل إعلان الثورة أولبصير بشارع المعدومين (لولينياك سابقا) فدار بينهما الحوار التالي: الأول: ما رأيك في تحكيم السلاح مع الأعداء؟ الثاني: هل شاورت الحاج في ذلك؟ الأول: الحاج سجين لايمكن استشارته فإذا كنتم ترغبون في المشاركة، فعلى بركة الله! الثاني: لابد من استشارة الحاج أولا، وبعد نحو شهر من إعلان الثورة، تمكن مناضلان بالناحية من الإتصال بقيادة المنطقة الثالثة هما: الحاج لعمارة آيت أومعوش من مسؤولي ”المنظمة الخاصة” بالناحية سابقا وقد تمكن من ذلك بواسطة علي ملاح (سي الشريف). عبد الرحمن ميرة الذي اتصل بأوعمران، فزوده بمعلومات دقيقة حول الثورة الوليدة وذراعيها: جبهة وجيش التحرير الوطني. وبفضل هذه التعليمات ما لبثت الناحية أن التحقت بالمركب، بتنفيذ بعض العمليات التخريبية، كقطع أعمدة الكهرباء والهاتف وذلك خلال الأشهر الأولى من سنة 1955 عمليات أهم، من تنفيذ ميرة وجماعته مهاجمة مقر الدرك بتازمالت، وتخريب محطة سياحية في قمة عين زيدة، وفي مارس من نفس السنة، ظهرت ناحية أوزلاقن أولى شبكات الإستعلام والإمداد والتموين من المسبلين... وفي سياق بداية الثورة في الصومام دائما، يزيح الكاتب النقاب عن تلك المجموعة التي أرسلها البشير شيحاني قائد المنطقة الأولى بالنيابة في ربيع 1955 للمشاركة في تفعيل الكفاح المسلح ناحية الصومام، كانت المجموعة تضم 11 فردا، تمكن العدو أثر وشاية من محاصرتها والقضاء عليها ولم ينج منها سوى عنصر واحد، هو أرزقي بايري الذي لقب لذلك بالأوراسي. ويؤكد المجاهد أحمد فضال (احميمي)، أنه التقى بالأوراسي في 10 يوليو من نفس السنة بقرية ثيوال (بني معوش) فضمه لفوجه. وقد شارك الأوراسي في الهجومات المنسقة يوم 7 سبتمبر الموالي، بمهاجمة مر كز الدرك بالقصر، كما شارك في معركة ماسين (أميزور) في 20 يناير 1956، وهي أولى معارك بالناحية، اشتعلت إثر كمين نصبه الثوار لوحدة من جيش الإحتيال، وحسب الكاتب أن طيران العدو قصف الوحدة خطأ، فقتل 20 من جنودها. ويقدر خسائر الثوار في المعركة ب 8 شهداء ومسبل، فضلا عن ثلاثة مواطنين ذهبوا ضحية القصف الجوي، ويعتبر الكاتب الحاج لعمارة أول مسؤول شهيد بالناحية، فقد أسر في أولى عمليات التمشيط يوم 17 يونيو 1955، وأعدم فورا في مدرسة ايغيل وذلاس. لقطات من مؤتمر الصومام كريم يعرف قواعد الأعراب! عاد بنا الكاتب عبد العزيز واعلي إلى مؤتمر الصومام (20 أوت 56)، من خلال اللقطات التالية: بدأت أشغال المؤتمر بمركز أثوراغ، وتواصلت بمركز بهنوس، لتختتم بمنزل آث سلمان، أما أمانة المؤتمر فقد عملت بمركز مخلوف السعيدي منذ بداية الأشغال، وسمع الحضور في ختام الأشغال أول مرة نشيد ”جزائرنا يا بلاد الجدد.. نهضنا نحطم عنك القيود”... وقف العقيد السعدي محمدي في ختام الأشغال يخطب فوق صخرة.. وينقل لنا الكاتب من خطابه الفقرة التالية: ”نحن متحدون نحو أقوياء إن لم تفهم فرنسا لغتنا، هنا في سفوح الجزائر وفي أدغالها سوف نضطر لعبور البحر، لنفهمها في أرضها، في مدنها، في شوارعها في عاصمتها باريس!؟”. اكتشفت الشاهد أن القائد بلقاسم كريم يعرف قواعد النحو، فقط تقدم إليه الطالب محمد الصادق بإبريق من الماء، ففاجأه بهذا الطلب: أعرب ”ما أجمل الربيع!”. يؤكد الكاتب أن الرائد عميروش قابل في 29 أوت 1956 عمر بن بولعيد وبعض رفاقه بمنزل سي زهار في مرتفعات الدريعات.. حيث قدم لهم عرضا عن أشغال المؤتمر وقراراته.. للتذكير أن عناصر من وفد عمر بن بولعيد إلى مؤتمر الصومام، عارضت تزكيته قائدا للولاية الأولى وكان من بين هؤلاء الطاهر النويشي (غمراس)، من رجال فاتح نوفمبر بالأوراس، ولهذا السبب لم يلتحق الوفد بالمؤتمر، كما أفادنا بذلك المجاهد الشاهد عبد الحميد بوضياف.
كيف شهدت فرنسا على نفسها في ملوزة! أفادنا المجاهد عبد العزيز واعلي بمعلومات حول ”قضية بني يلمان ملوزة”، تسمح باستخلاص رواية الولاية الثالثة حول هذه القضية، وقعت هذه القضية في الناحية الأولى من المنطقة الثانية مساء الثلاثاء 28 مايو 1957. كان دوار بني يلمان (1) بقراه العديدة مسرح احتكاكات دورية، بين جنود جبهة وجيش التحرير وعناصر بن لونيس (المصالية) التي سبقت بالتمركز في الدوار، وكسب تأييد ومساندة بعض أعيانه وتوابعهم، وقد تواصلت هذه الإحتكاكات قرابة السنة، ومن أطوارها حسب الكاتب: قدوم الملازم محمود معمر في صائفة 1956 إلى الدوار، وقيامة بتنبيه أهله من ألاعيب بن لونيس. مهاجمة عناصر جيش التحرير لفصيلة مرافقة لبن لونيس، لكنه تمكن من الإفلات رفقة مساعده رابح البرادي و6 آخرين من رجاله. تأسيس خلايا للجبهة وسط الدوار لكن عيون بن لونيس وأنصاره تمكنوا من اكتشافها، الأمر الذي مكنه من القضاء عليها.. استفزازات أخرى استهدفت مسؤولين محليين لجبهة التحرير وقافلة تموين، فضلا عن قتل اثنين من أعوان الإتصال. وصعّد أعيان الدوار الموقف بتشجيع من بن لونيس إلى حد المجاهرة بعصيان الثورة، وتنظيماتها التابعة للولاية الثالثة التي كان على رأسها يومئذ العقيد السعيد محمدي. كان قائد المنطقة الثانية النقيب أعراب أوداك يبلغ بانتظام قيادة الولاية بهذه الإستفزازات.. وأدت تراكمات كل ذلك إلى قرار تأديب بني يلمان بتسليط عقوبة جماعية عليهم. آلت عملية تنفيذ العقوبة إلى: كتيبة اقتحام بقيادة عبد القادر عزيل (البريكي). كتيبة إسناد بقيادة سليمان (موسطاش). فصيلة من الناحية بقيادة المساعد اطواهري. نفذت العقوبة مساء 28 مايو 57، كما سبقت الإشارة، وبلغ عدد ضحاياها 86 قتيلا. هذا الرقم أورده البريك في تقريره إلى قيادة المنطقة، وأثبته النقيب أوداك في تقريره إلى الولاية، كما أكدته لاحقا لجنة تحقيق انتقلت إلى الناحية بقيادة الرائد عميروش إثر عودته من تونس. كان رد فعل سلطات الإحتلال شرسا فضيعا على ثلاثة أصعدة: تقتيل من تعتبرهم مناصري الجبهة، وسط أعراش ملوزة وضواحيها، وذلك ابتداء من فاتح يونيو الموالي.. وقد بلغ ضحايا هذا القمع الوحشي 300 قتيل حسب الكاتب.. تجنيد حركى من بني يلمان وتحريضهم على الإنتقام لذويهم.. وقد ضربت حملة الإنتقام هذه تحت إشراف جيش الإحتلال ومشاركته أهل القصر، الماثن والصحريج.. لتمتد شمالا إلى بني وغليس، عرش النقيب أعراب أوداك، وقد أسفرت هذه الحملة الإنتقامية العمياء عن مقتل زهاء 500 شخص، حسب الكاتب دائما. شن حملة دعائية دولية لتحميل جبهة التحرير مسؤولية هذه المجازر الرهيبة، في إطار مساعيها الخارجية لنسف تمثيل الجبهة للشعب الجزائري وتطلعه إلى الحرية والإستقلال.. وقد نشرت مصالح الولاية العامة في صائفة 1957 كتيبا دعائيا، يقدر ”ضحايا ملوزة بأكثر من 300 قتيل”.. ترى ما سر هذا الخليط المعتمد من سلطات الإحتلال بقيادة الوزير المقيم روبار لاكوست يومئذ؟ تفسير ذلك، أن هذه السلطات ورطت نفسها، بأشهاد الصحافة الدولية المعتمدة بالجزائر وعدد من المبعوثين الخاصين بالمناسبة على مجزرة جيش الإحتلال في ملوزة، زاعمة أنها من فعل جبهة وجيش التحرير.. ناسية أو متناسية تماما، ما حدث لبني يلمان على يد جيش التحرير الوطني!. ...... (يتبع) (*) صدر عن دار الجزائر للكتاب سنة 2011. (1) يقع على نحو 40 كلم شمال سيدي عيسى (المسيلة).