المساواة أول آثار الأخوة وأصدق شواهدها، والتخلق بها والتدريب عليها أجلى مظاهر تمكن معنى الأخوة من النفوس. إن المساواة الإسلامية الناشئة عن الأخوة ليس المراد منها التساوي في منتجات العقول أوفي العلوم أوفي مآثر الأعمال، لظهور التفاوت بين الناس في القابيليات والهمم، ولكن يراد منها ما ينشأ عن معنى الأخوة وهو تساوي المسلمين في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية، كما قال الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور، وفي التهيؤ والصلاحية لكل فضيلة في الإسلام إذا وجدت أسبابها وسمحت بها مواهب أصحابها، وأيضا في إعطاء الحقوق المخولة في الشريعة بدون تفاوت بين أصحاب هذه الحقوق فيما لا أثر للتفاوت فيه بين الناس. قال تعالى في سورة النحل:{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة و لنجزيَّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (97). يقرر القرآن الكريم بهذه القاعدة العامة أن الجنسين الذكر والأنثى متساويان في قاعدة العمل والجزاء وفي صلتهما بالله تعالى، وفي جزائهما عند الله وأن العمل الصالح لابد له من القاعدة الأصلية يرتكز عليها، قاعدة الإيمان بالله “و هو مؤمن”. فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. والعقيدة هي المحور التي تشد إليه الخيوط جميعا، وإلا فهي أنكاث. فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية فتجعل الخير أصلا ثابتا يستند إلى أصل كبير، لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل. وتقرر هذه الآية الكريمة أيضا أن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله . إن هذه الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة، وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات فما أكرمه من جزاء.. وما أعظمه من حليم. إن المساواة هي أيضا أصل عظيم من أصول نظام الاجتماع الإسلامي وهي من أجل ذلك ذات طرفين: طرف تظهر فيه بمظهر أدب إسلامي تابع للعقيدة الإسلامية يجب تخلق المسلمين به، وهذا الاعتبار تقديس لها وترويض ديني للمسلمين أن يكون ذلك خلقا لهم حتى ينساقوا إليها انسياقا اختياريا جميلا، وطرف تظهر فيه بمظهر أصل تشريعي يجري على المسلمين لزوم المصير إليه وإلى فروعه في أنواع المعاملات، وهي بهذا الاعتبار أصل من أصول التشريع راعته الشريعة و يراعيه ولاة الأمور و يحمل الناس عليه. أما الطرف الأول المساواة التي تظهر فيه بمظهر أدب إسلامي تابع للعقيدة الإسلامية فهي فيه فرع الأخوة التي هي فرع الدخول في الجامعة الإسلامية، وقد أثبتها القرآن فقال في سورة السجدة:{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا( أي مشركا) لايستوون}(18). فعلمنا أن المؤمنين مستوون في ذلك المقدار.. وقال جل ذكره في مثل المؤمن والكافر: {وما يستوي الأعمى و البصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الأحياء ولا الأموات} (فاطر / 19 - 22) لن يستوى عند الله الإيمان والكفر والخير والشر والهدى والضلال، كما لا يستوى العمى والبصر والظلمة والنور والظل والحرور والحياة والموت، وهي مختلفة الطبائع من الأساس . ثم بينت السنة المطهرة تلك المساواة بقول رسول صلى الله عليه وسلم في الصحاح: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.. أي حتى يصير شعور بالمساواة خلقا له إذ المراد بنفي الإيمان نفي خلق الإيمان وكماله ورسوخه، لأن المساواة ليست من أصل العقيدة التي يكون بها الدخول في جماعة المسلمين و لكنها فرع فرعها.. ولأجل ذلك وبخ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر رضي الله عنه إذ بدرت منه بادرة تؤذن بإلغاء المساواة فيما اعتبرت فيه المساواة .. فقد روى في صحيح البخاري أن أبا ذر رضي الله عنه قال : “ساببت عبدا فعيرته بأمه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي أعيرته بأمه، قلت نعم، قال عليه الصلاة والسلام: “إنك امرؤ فيك الجاهلية”. فجعل عليه الصلاة والسلام تحقيره للعبد و المؤمن من جهة العبودية بقية من أخلاق أهل الجاهلية وإذ ما كان من شيم هذا الصحابي الجليل أن يعامل بمثل تلك المعاملة.