انشغل رموز النخبة المصرية. على مدى اليومين الماضيين. كالعادة مع كل حدث لافت. بتفسير تصرفات الرئيس السابق حسني مبارك أثناء الجلسة الأولى لإعادة محاكمته. واجتهدوا في البحث عن سر ”سعادته” وابتسامته التي وزعها على الكاميرات والحضور يميناً ويساراً. وتلويحه للموجودين في القاعة ومشاهديه عبر الشاشات. وظهوره. على رغم علامات تقدمه في السن لم يخفها لون الصبغة الداكن لشعره. منتشياً غير عابئ بسجانيه أو محاكميه أو... حكامه. وفي زخم انشغالهم بالحدث وتفسيره ترقبوا رد فعل الرئيس محمد مرسي على الابتسامة والتلويح. وتوقع بعضهم أن يضغط الرئيس لإعادة مبارك إلى مستشفى السجن وإخراجه من المستشفى العسكري الذي دخله قبل أسابيع. وبينما خلص ”الإخوان” إلى أن مبارك كان يلوح لمناصريه وفلول نظامه وأعضاء جبهة ”الخراب” ومعارضي مرسي المتسببين في وقف حال البلد. انتهى الثوريون إلى أن الرئيس السابق كان يلوح لمرسي ويبتسم ل ”الإخوان” شاكراً مهللاً لفشلهم في إدارة أمور الدولة وترسيخ الانطباع بأن حكمه كان أفضل للمصريين. والحق أن المصريين منشغلون منذ انطلاق الثورة بتفسير خطب وتصريحات وبيانات وإجراءات وتصرفات وسياسات وتحركات وإيماءات وإيحاءات ومفارقات وتناقضات تدور أمامهم وخلفهم وحولهم من دون البحث في آفاق المستقبل أو الإجابة عن السؤال: كيف ستكون أوضاعهم وحال بلدهم بعد فترة من الزمن؟ فتكون النتيجة أن يفاجأوا دائماً بما لم يكن في الحسبان. فيبدأون سريعاً في البحث عن طرف يلقون عليه بالمسؤولية عن الكارثة التي وجدوا أنفسهم في قلبها. وبعدها ينشغلون مجدداً بتفسير ظواهر الحاضر. أو تصرفات بعضهم البعض. أو سياسات الحكم أو الرئيس. أو حزبه أو جماعته. أو أفعال الفلول وبقايا النظام السابق. أو أتباع مبارك وأبنائه. أو يغوصون في تفسير هذه الحادثة أو تلك. وتكون المحصلة في النهاية إبقاء الحال على ما هو عليه. أو قل مزيداً من التدهور على الأصعدة كافة. ليبدأ فاصل جديد من النواح على حالهم الذي هم فيه منذ أتت الثورة ثمرتها الأولى بتنحي مبارك قبل أن تذبل وتتساقط أوراقها. أو قل أهدافها. وتنهار فروعها. أو قل فصائلها. حين بدأ الشبان والشابات تنظيف ميدان التحرير صباح اليوم التالي للتنحي كان الأمل يحدوهم. وغيرهم من المصريين بالطبع. في تحول ”مصر الثورة” إلى دولة متقدمة ولو احتاج الأمر بعض المعاناة والجهد والوقت. لم يتصور أي مصري ممن شاركوا في الثورة أو أيدوها أو تابعوها بالرضا أن الحال ستصل بالبلاد إلى ما هي عليه الآن من انقسام واهتراء وانفلات وفقر وتخلف. ولم يتخيلوا أن الرسم البياني الصاعد أحياناً والهابط غالباً في عهد مبارك تحول إلى منحدر هابط دائماً بعد الثورة!! بالطبع فإن ظواهر كتلك متكررة في غالبية دول العالم لكن الفارق أن الدول المتقدمة حين تنشغل شعوبها بحدث أو تصرف أو واقعة أو حتى زلزال أو كارثة طبيعية ضخمة فإن المؤسسات تظل تعمل من أجل المستقبل. والنخب تفكر وتبتكر وتضع رؤى لتفادي أخطاء الماضي. وتحقيق مستقبل أفضل. أما في مصر كنموذج وحالة ومريض يأمل في العلاج ويبحث عن الشفاء فإن المؤسسات في الحكم والمعارضة تكاد تكون معطلة. وإن عملت فإنها ترتكب من الأخطاء ما يزيد من المرض ويجعل من الشفاء أمراً مستعصياً. أما النخب. بمختلف ألوانها وأطيافها. فتحولت إلى كائنات فضائية تطل على الناس ليلاً غالباً ونهاراً أحياناً لتلوك الكلام نفسه وتزيد من الانشغال بصغائر الأمور وأكثرها تفاهة. فتكون النتيجة ليس فقط غياب الأمل في تحقيق أهداف الثورة وإنما الخوف من ضياع البلد بكل تاريخه وحاضره ومستقبله!! قبل عقدين من الزمن وضع الباحثان ”النخبويان” الأميركيان صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما ”ياباني الأصل” نظرية صراع الحضارات وبغض النظر عن مزاياها أو عيوبها. صحتها أو خطئها. فشلها أو نجاحها. فإنها أعادت صنع النظام العالمي. وبعدها بعقد كامل كتب الباحث الأميركي الهندي الأصل فريد زكريا متسائلاً: ”لماذا يكرهوننا؟” باحثاً عن أسباب ما جرى في أيلول (سبتمبر) لكن زكريا الذي وضع كتابه الشهير ”مستقبل الحرية”. لم يكن فقط ينقب عن الدوافع وراء ”غزوة سبتمبر” بعدما خلص إلى أن ما جرى لم يكن فعلاً وإنما رد فعل. راصداً كراهية الشعوب العربية والإسلامية لأميركا نتيجة السياسات الأميركية الداعمة للأنظمة الديكتاتورية وإنما هدد أيضاً الأسلوب الذي يجب على الولاياتالمتحدة أن تتبعه في تعاملها مع هذه الدول مستقبلاً... وقد كانت الحال في مصر مختلفة. فالحكم يتحدث عن نهضة. والمعارضة تنتظر ثورة أخرى. والنخب غارقة في تفسير ابتسامة مبارك وتلويحه!! محمد صلاح