ما يحدث في الولاياتالمتحدة غير مسبوق، ولولا أن الأخبار التي تتعلّق بحوادث القمع والاحتجاز زادت، وبدأت تصل إلى الإعلام، لما صدّق المرء أن هذه الإجراءات يمكن أن تحدُث في دولة كانت توصف بأنها "قائدة لواء الحرّيات". أصبح الجميع اليوم مهدداً هناك. فسواء تقدّمتَ بتأشيرة سارية، أو كنتَ ممّن يحملون بطاقة الإقامة الخضراء، أو حتى جواز السفر الأميركي، فأنت معرّض للتوقيف في المطار، وهو إجراء يبدأ بالتأخير ساعاتٍ طويلة تخضع فيها الهواتف والحواسيب للتفتيش، وقد ينتهي الأمر بالاحتجاز المطوّل، أو بالإعادة إلى بلد القدوم. أما الإدارة الجديدة فالجميع مشتبه بهم، وفي مقدمة أولئك الأفراد القادمون ممّا يُعرف ب"الشرق الأوسط"، وهو توصيف واسع يشمل مجمل البلدان العربية والإسلامية. التعاطف مع القضية الفلسطينية أو إدانة إجرام الاحتلال، أو حتى تقديم نقد لاذعٍ للسياسة الأميركية في وسائل التواصل الاجتماعي، كلّها أصبحت ممّا يعرّض الحرية للسلب، حتى بات بعض الطلاب العائدين إلى الولاياتالمتحدة يحرصون على إفراغ هواتفهم أو تركها في بلدانهم، حتى لا يُساءلوا بعد تفتيشها. المشاهد في هذا الصدد كثيرة، لكنّ الأكثر تأثيراً كان فيديو طالبة الدكتوراه التركية، روميساء أوزتورك، التي وجدت نفسها محاصرةً بملثّمين مسلّحين في منتصف الشارع. ظهر الهلع عليها، وظنّت لوهلة أنها تتعرّض لهجوم عصابة إجرامية، قبل أن يخبرها أولئك أنهم تابعون للأجهزة الأمنية. من أجل الاستجواب، أُخذت الفتاة إلى مركز احتجاز في منطقة بعيدة، ليتبيّن لاحقاً أن سبب ما تعرّضت له كتابة مقالة ناقدة للجرائم الإسرائيلية. لأن الأصل في أبناء منطقتنا هو تبنّي هذا الموقف المتعاطف والداعم للحقّ الفلسطيني، فإن الجميع هم في دائرة الاتهام وفق تهم قد يكون منها معاداة السامية، أو دعم الإرهاب، أو العمل ضدّ المصالح الأميركية، وهي تهم يمكن توجيهها إلى أيّ شخص، وتُذكّر بما قُدّم في مواجهة المعارضين في الدول الشمولية. بداية هذا الأسبوع، كانت السلطات الأميركية تمضي إلى ما هو أبعد عبر إعلان إلغاء تأشيرات الطلاب الذين شاركوا في التظاهرات المؤيدة لفلسطين، ونُظّمت في جامعات أميركية مختلفة. وفق تصريح لوزير الخارجية الأميركية، ماركو روبيو، الذي وصف المتظاهرين ب"المجانين"، فقد جرى إلغاء ثلاثمئة تأشيرة، والأعداد في تزايد. من الوقائع التي أحدثت تفاعلاً عالمياً اعتقال الناشط الفلسطيني محمود خليل، الذي كان ينظّم برامجَ داعمةً لفلسطين في جامعة كولومبيا، بتهمتَي دعم الإرهاب ومعاداة السامية. نشر قبل أيّام مقالاً في صحيفة كولومبيا ديلي سبكتيتور، عن تعرّضه لما وصفه "بالاختطاف"، كما تحدّث عن الأجواء القامعة للحرّيات، والتحدّيات التي باتت تواجه الطلاب الدوليين الذين يدرسون في الولاياتالمتحدة. تطرّق خليل في مقاله إلى تواطؤ جامعة كولومبيا لأسباب مالية، وانحيازها إلى الاحتلال ضدّ طلابها. ربّما تريد الإدارة الأميركية (الداعم الأكثر أهميةً لتلّ أبيب) أن تسكت الأصوات التي تذكّر بوحشية الجرائم الإسرائيلية، لكن ما يجب الانتباه إليه أن التعاطف الإنساني مع الفلسطينيين، ضدّ المجازر التي يتعرّضون لها، لا يقتصر على الوافدين من المنطقة العربية، وهو ما أثبتته المظاهرات الحاشدة، التي خرجت السبت الماضي، ودعت إليها أكثر من 300 منظّمة محلّية. لا يوجد سقف لما يمكن للرئيس ترامب أن يقوم به، فهو يطرح اليوم إمكانية الترشّح لولاية ثالثة على عكس مواد الدستور (تعوق ذلك)، كما يقترح أن يجري تعديلات دستورية تمكّنه من تعظيم دوره رئيساً على حساب المؤسّسات الأخرى، بما يشمل أن يكون رئيساً أطول مدى. الإدارة الجديدة بدأت بفرض قيود على المهاجرين وإعلان الحدّ من أعداد الواصلين، ما سيؤثّر، ليس في أعداد طالبي الهجرة واللجوء فقط، وإنما في أعداد الطلاب والسيّاح أيضاً، الذين يُتوقّع أن تقلّ أعدادهم كثيراً، خاصّة مع التوصيات التي أعلنتها دولٌ حليفة، من بينها دول في القارة الأوروبية، بتجنّب مواطنيها السفر إلى الولاياتالمتحدة. لا يقتصر الأمر على ذلك، ففي مجال التجارة العالمية يمارس ترامب ما يُعتبر إنهاء حالة "العولمة". التجارة العالمية، التي يُحبّ ترامب أن يراها، تسير فقط في اتجاه خدمة ما يعتبرها "مصلحةً أميركية". في القارّة الآسيوية، وفي مناطق أخرى، تعاني الأسواق، منذ بداية شهر أفريل الجاري، ارتباكاً غير مسبوق، فبسبب سياسة فرض الرسوم الجمركية عانت البورصة انهياراً يشبه ما حدث في عام 2008، حين أصيب الاقتصاد العالمي بهزّة لم يتعافَ منها إلا بعد سنوات. هذه التداعيات كلّها، وفي مقدمها الارتفاع العالمي المتوقّع للسلع والخدمات، الذي لن يكون الأميركيون في منأىً منه، تبدو عند الرئيس ترامب، الذي يقول إنه يعمل على "علاج أمراض الاقتصاد"، بلا أهمية، حتى وإن كان لهذه الإجراءات تأثير حالي في ناخبيه، من قبيل ما حدث من خسائر كارثية متعلّقة بأسهم البورصة الأميركية، فإن ترامب يرى أن لا بديل للعلاج الذي اختاره. المفارقة أن ترامب كان يقول إن بلاده سوف تدخل على يديه "عهدها الذهبي". اليوم، يرى أغلب الخبراء والمحلّلين أن الولاياتالمتحدة تتجه نحو الهاوية، وأن هذه السياسات، وإن حقّقت بعض الفوائد اليوم، سوف تنعكس لا محالة في الداخل الأميركي، ما يجعل البلد الأكثر أهميةً حالياً يفقد مصادر قوّته ومكانته العالمية في المستقبل القريب. في المقابل، يرفض الرئيس ترامب الاستماع لأيّ صوت يعارض سياساته، حتى من داخل دائرته الضيقة، التي بدأت أصوات فيها (مثلاً صوت رجل الأعمال المقرّب منه إيلون ماسك) تعلن تحفّظها. إنه ينشغل أكثر بمتابعة التضييق على منتقديه من منافسيه الديمقراطيين، الذين يرى أنهم مجرّد متآمرين.