موضوع الحجاب في تركيا الحديثة التي أنشأها أتاتورك قبل تسعين عاما كان دائما في قلب كل النقاشات الدينية والسياسية. لم يكن الحجاب يوما مسألة غطاء رأس عادية لا علاقة لها بالسياسة والسياسيين. الحجاب هو رمز ديني في تركيا، لكنه بالنسبة للبعض أيضا هو جزء من تمدد وانتشار الإسلام السياسي والجهود المبذولة لإظهار وتقديم البعد الآيديولوجي في ارتدائه. العلمانيون الأتراك ورغم مزاعم احترام خيارات المرأة التركية بالتحجب فإنهم طالبوها دائما بالانحجاب والبقاء بعيدة عن الأماكن والمؤسسات العامة حتى لا تهدد الأسس والمبادئ التي رفعتها جمهورية أتاتورك في الحداثة والعلمانية. إسلاميون من ناحيتهم ردوا على المتاريس والحصون الأتاتوركية بتجييش قواعدهم وتمسكهم بتقديم وإظهار هوية الأتراك التي حاول البعض التلاعب بها أو إخفاءها أو تشويه صورتها في علاقتها بالإسلام وتعاليمه. إسلاميون يصلون إلى سدة الحكم لكنهم يراد لهم ألا يحكموا. هكذا وقع الصدام بين جانبي المجتمع التركي المتداخل والمتشابك أصلا في نمط عيشه وتطبيقاته الاجتماعية والحياتية، فتحركت القيادات السياسية والحزبية الإسلامية للدفاع عن الحجاب وحقه في الدخول إلى مؤسسات الدولة ومرافقها. هكذا بدأت قصة الحجاب وتفاعلت في تركيا، وظل هو ينتظر لحظة إعادة الاعتبار حتى يومنا هذا. محاولة فاشلة أولى لحزب الفضيلة الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان عام 1999 دفع ثمنها باهظا سياسيا وحزبيا. النائبة المحجبة مروة قواقجي، التي نجحت في اختراق الأبواب والمقاعد داخل البرلمان التركي، عادت وغادرت المكان بعد نصف ساعة فقط أمام ضغوطات اليساريين والعلمانيين المتشددين على ألا تعود ثانية. محاولة جديدة عام 2008 عبر تغيير مواد وأنظمة قانونية تمنع دخول الفتيات المحجبات إلى مؤسسات التعليم العالي، تصدت لها المحكمة الدستورية وحماة القلاع والحصون في مؤسسات الجيش والقضاء والإدارة، فباءت بالفشل هي الأخرى. لا بل إن أردوغان وحزبه وجدا أنهما أمام محاولة للانتقام من قبل حراس المعبد عبر التحرك لحظر الحزب، لولا أن الكرة لم تصطدم بالعارضة في آخر لحظة وهي في طريقها إلى المرمى. أردوغان عام 2010 تحرش مجددا بعش الدبابير، عندما سهل وصول الرئيس عبد الله غل وزوجته المحجبة خير النساء إلى قصر الرئاسة، منتقمين ممن قطع الطريق على فرصها في الدراسة وتجنب مصافحتها خلال الاحتفالات الوطنية. هو اتبع ذلك بدعوة مجلس التعليم العالي قبل عامين لاستصدار قرار السماح بارتداء الحجاب في الجامعات، ثم قرار مماثل بالموافقة على ارتدائه في المؤسسات الرسمية ليكون قرار دعم دخول 4 نائبات إسلاميات عدن من فريضة الحج وقررن عدم رفع الحجاب داخل مجلس النواب التركي هو الضربة الحاسمة. من الذي دفع الثمن الأكبر في موضوع “إطلاق سراح” الحجاب في المؤسسات التعليمية وإخراجه من حياة الأسر التي عانى منها لعقود طويلة؟ ربما أول الخاسرين هو حزب اليسار الديمقراطي، الذي قاد قبل 14 عاما عملية التصدي لدخوله المجلس النيابي التركي، وكان الحزب الأول يومها في تركيا، بينما هو اليوم على هامش الحياة السياسية والحزبية لا يعرفه أحد. الخاسر الآخر هو رموز وامتدادات الدولة العميقة وبعض كبار الضباط في المؤسسة العسكرية الذين أزيحوا من مواقعهم الحساسة. لا بل إن الكثيرين منهم في السجن اليوم يدفعون ثمن التآمر على القيادات السياسية ومحاولة إبعادها عن السلطة باسم العلمانية والشعارات الأتاتوركية. ومن هو المنتصر الحقيقي بعد حل أزمة حجاب كل ذنبه الانتظار بصبر وهدوء أن يصدر قرار السماح بدخوله إلى المؤسسات مرفوعا على الرأس؟ حزب العدالة والتنمية ربما هو المنتصر الأول بعد 11 عاما من الصبر والتأني في التعامل مع ضغوطات من كل صوب، أنصاره يريدون الوصول إلى غايتهم بأسرع ما يكون، وسيوف المعارضة تهدد الرقاب أمام الحملات والدعاوى والضغوطات من قبل العلمانيين وكل من نصب نفسه مدافعا عن رموز وقلاع الأتاتوركية في البلاد. المنتصر الآخر هو الأحزاب السياسية الموجودة تحت سقف البرلمان والتي أثبتت رشدا ونضوجا سياسيا كبيرا هذه المرة في ضرورة إنهاء قضية عالقة تطارد الجميع. اليمين واليسار والأحزاب القومية والكردية أفسحت المجال إما بصمتها أو الاكتفاء بممارسة حقها الديمقراطي في الاعتراض على محاولات تجيير ما يجري سياسيا وانتخابيا كما تقول. منتصر ثالث هو اتساع رقعة تمركز لغة الحوار والتسامح في تركيا، على عكس المشهد المرعب والمعيب قبل 14 عاما. البرلمان التركي وأحزابه أثبتوا أنهم قد يتواجهون في أكثر من ملف وقضية داخلية وخارجية، لكن مسألة الحجاب لم تعد تتحمل الإطالة والانتظار أكثر من ذلك. المنتصر الأهم يبقى نساء تركيا على مختلف توجهاتهن وميولهن السياسية، فالمشهد السياسي خلال الجلسة التاريخية للبرلمان وحلقات الترحيب والتهنئة التي جمعت غالبية البرلمانيات حول محجبات العدالة والتنمية يستحق التنويه والتوقف عنده للإشادة. البعض يذكر نواب أردوغان بالقسم الذي أدوه خلال التحاقهم بمجلس النواب التركي بالولاء لدستور عام 1982 الذي أقره العسكر والذي يتضمن مواد التمسك بالعلمانية والشعارات والمبادئ الأتاتوركية، فما الذي سيفعله العدالة والتنمية في نقلته المقبلة، تغيير هذه المواد أم التحرك لإلغاء دستور الانقلابيين بأكمله ليتخلص من شبح يقف في طريقه عند كل محاولة تغيير دستورية وسياسية واجتماعية تنتظر إقرارها منذ عشرات السنين؟ كانوا يرددون أن ارتداء الحجاب هو تحد للدولة وسلطتها ومحاولة للإطاحة بما بناه أتاتورك قبل 90 عاما، وأنه لم يبق سوى إعلان الدولة الإسلامية في تركيا. أين هم هؤلاء اليوم؟ لماذا لم نعد نسمع لهم أي موقف أو تحذير أو تهديد؟ تركيا لم تنتقل فقط من عقد إلى عقد، بل قفزت من عهد إلى عهد.