الرداءة السياسية وتراجع مصداقية الأحزاب والطبقة السياسية، وانحطاط الأداء في الحياة العامة، دفعت الشارع الجزائري إلى استعادة حس النكتة بمرارة، حيث تحولت الشخصيات الحزبية والعامة إلى مجال خصب للسخرية من طرف الشبان على مواقع التواصل الاجتماعي. عوضت الكثير من الأسماء والمواقف شخصية ”جحا” التي عادة ما يستعملها الشارع في الأوقات الصعبة والظروف المتدهورة التي طحنت شريحة كبيرة من الناس البسطاء، والذين صاروا لا يجدون غير النكتة لتجاوز واقعهم الصعب واستعادة حس التفاؤل ولو كان لبضع لحظات. وقد عوضت جدران وصفحات ”الفايسبوك” جدران الشوارع والمقاهي والأسواق التي كانت في السابق فضاءات لتسويق النكتة، التي يلجأ إليها المجتمع في الأوقات الصعبة بحثا عن المخارج والحلول لمشاكله ولو بطريقة مؤقتة. عادت مؤخرا خرجات الوزير الأول عبد المالك سلال، في العديد من خطاباته، لتذكر الجزائريين بزمان ازدهار التنكيت السياسي في الثمانينيات، حيث كان الشارع يلجأ إلى النكت للسخرية من طوابير أسواق الفلاح والتوجه نحو الانفتاح الذي كان يقوده الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وكان يرى فيه البعض توجها غير سليم لمستقبل البلاد التي انفجرت في 5 أكتوبر 1988. التنكيت السياسي لم يتوقف يوما في الجزائر، حيث كان يلجأ إليها الشارع الموازي لإنتاج وسائله الدفاعية عندما تنغلق الأبواب في وجهه، وقد رافق التنكيت السياسي في الجزائر كل مراحل الدولة والأنظمة المتعاقبة حتى تلك التي وصفت بالأكثر تشددا وانغلاقا، حيث كان دائما المجتمع يجد طريقة للانتقام من هزائمه وزعماء الساحة السياسية بطريقة أو بأخرى. كان مثلا انقلاب 19 جوان 1965 الذي سيعرف لاحقا بالتصحيح الثوري، موضوع تنكيت في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي لم يسلم هو الآخر من تنكيت الشارع مثلما لم يسلم زعماء سياسيون كثر في عهده، وهذا رغم القبضة الحديدية للموسطاش على كافة أجهزة الدولة.. فالوزير قايد أحمد كان موضوع للكثير من النكت التي وصلت لحد البذاءة. وقد انحصرت النكتة المروجة في تلك الفترة حول الحريات الأساسية وغياب التعبير الحر خارج إطار الحزب الواحد، حتى أن بعض رواد مقهى اللوتس في السبعينات يوردون شهادات عن انتشار عيون بومدين في كل مكان. لكن تعتبر فترة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد هي فترة ازدهار النكتة على الإطلاق، حيث نشطت آلة صناعة النكت، في وقت كان الشعب يفتقر حتى إلى أبسط المواد الأساسية من الأسواق قد قدمت النكتة الرائجة في تلك الفترة الرئيس في صورة أمي يفتقر إلى الحنكة السياسية وسداد الرأي، خاصة إذا جمعت النكتة بينه و بين الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. وفي بعض الأحيان يتم استنساخ شخصية الرئيس في عدة نسخ أمريكية و فرنسية، فيحدث أن تبدأ النكتة هكذا ”كان واحد النهار جحا العربي وجحا الڤاوري وجحا الأمريكي”، و لم تكن هنا شخصية جحا غير زعيم البلاد. وكم هي كثيرة النكت التي تناولت الرئيس الشاذلي بن جديد في ثمانينيات القرن الماضي، حيث انتشرت نكتة في منتصف الثمانينيات تقول إن ”الشاذلي في لحظة تذمر من كونه صار موضوع السخرية أمر أحد مسؤوليه بجمع كل النكت التي قيلت عنه ورميها في البحر، لكنه فوجئ بخروج كل أسماك البحر وهي تكاد تموت من الضحك”. مارس الشارع الجزائري التنكيت حتى في عز الأزمة الأمنية، حيث لبس التنكيت في هذه المرحلة لباسا أسود طبعته المجازر الجماعية التي كانت الجماعات الإرهابية خلالها تحصد الأرواح، و لم يعد ثمة فرصة للتفريق بين الحواجز المزيفة والحقيقية فانتشرت نكتة تقول إن ”أحد المواطنين عند توقيفه يحاجز وهو في حالة سكر خاطب الجماعة إذا كنتم أنتم أنتم أنا هذه هي طبيعتي وإذا كنتم هما والله من هذي ما نزيد نعاود”. وكانت هذه قمة الإبداع التي يمارسها المجتمع في محاولة لإبداع أساليب وطرق مقاومة الفناء والموت. في زمن السلم والمصالحة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي انتقلت النكتة لتأخذ أشكالا أخرى، مثل مقاطع اليوتيوب والأغاني الشبابية، وحتى الصور التي تقدم الزعماء السياسيين في أشكل مضحكة وكاريكاتورية، حيث لاحظنا كيف تفاعل شارع الفايسبوك مع شكيب خليل ولويزة حنون والوزير الأول عبد المالك سلال.. الذي أعاد للنكتة السياسية زمنها الذهبي مع الرئيس الشاذلي بن جديد. رواد الفايسبوك خلدوها في أغان من قبيل تلك الأغنية التي انتشرت مؤخرا وتناولت ”كلمة فقاقير”، التي صاغت على وزنها كل كلمات الأغنية التي تحدثت عن تأهل الفريق الوطني إلى نهائيات كأس العالم من قبيل ”شطاطيح رداديح، صبابيح وغيرها..”، ومثلها انتشرت نكتة في شكل حوار بين الوزير الأول ووزيرة الثقافة خليدة تومي، التي شبهها الوزير بالخنفوسة تقول ”سلال قال لخليدة قولي بوسة فقل لها أنت خنفوسة، فقالت هي نناك والله ما نزيد نلعب معاك”.. وكان هذا أسوء أشكال الابتذال السياسي الذي صورته مواقع التواصل الاجتماعي. وكان قبلها قد انتشرت أيضا نكتة تتحدث عن انفراد الرئيس بوتفليقة باحتكار فضاء الخطاب في التلفزيون لساعات طويلة، تقول إن الشعب طلب ببث أي شيء حتى لو كان الأذان فنقل مستشار الرئيس هذا المطلب إليه، فقال الرئيس نعم موافق شرط أن أكون أنا المؤذن!”. الإعاقة اللغوية والابتذال السياسي.. ترتبط النكتة في الجزائر، خاصة تلك التي تناولت الأوضاع السياسية، بميزتين أساسيتين هي الابتذال السياسي والابتذال اللغوي، حيث يبرز الزعماء في نكتة الشارع لا يحسنون اللغة التي يتحدثون بها ولا يعيرون وزنا لمناصبهم السياسية ولا يلقون بالا للصالح العام. ولعل خطب الشاذلي بن جديد - رحمه الله - أحسن دليل على ذلك خاصة بعد أن عمد الرئيس الراحل إلى العمل بنصائح المرحوم عبد المجيد مزيان، والاعتماد على الارتجال والتخلي قليلا عن التقيد بالخطب المكتوبة، حتى صارت ”الشمس قد تنطق السمش” كما ينعدم الفرق بين التذكير والتأنيث ”فالدولة مع حقوق النساء سواء كانت ذكرا أو أنثى”. فرغم أن الرئيس بوتفليقة حاول التغطية بلغته الفصيحة والجميلة على زمن كوارث الشاذلي بن جديد، لكن بعض وزرائه أبدعوا في محاكاة زمن الشاذلي وأكثر.. فوزيرة الثقافة مثلا في بدايات عهدتها بالقطاع أبدعت في إنتاج لغة عربية أضحكت الشارع كثيرا، خاصة في المناسبات التي وجدت فيها الوزيرة نفسها مجبرة على الحديث أمام حشد من زوار الجزائر من العرب، فمرة بفندق الأواسي قالت الوزيرة أمام جمع غفير من الضيوف العرب ”أتمنى لكم قيامة طيبة في الجزائر”، عوض أن تقول ”أتمنى لكم إقامة طيبة”. ثم جاء الوزير الأول عبد المالك سلال ليعيد مجد الشاذلي بن جديد. وقد نقل في هذا السياق الأستاذ عبد العالي رزاقي، في إحدى مقالاته عن رئيس حكومة سابق قوله لماذا عين الرئيس بوتفليقة عبد المالك سلال وزيرا للموارد المائية؟ فأجاب: ”حتى يغسل عظامه من الذنوب التي يرتكبها في حق الشعر والشعراء والدين واللغة العربية والدارجة والفرنسية”. عادة استهزاء سلال بالشعر والشعراء رافقته لمنصب الوزير الأول، حيث تساوت عنده لغة قل أعوذ برب الفلق و لغة الشعر، كما تتساوى في خطاباته الدارجة بالخليط الفرنسي - العربي، خاصة عندما يبدع وزيرنا في نقل مصطلحات من قبيل ”عتاريس، وناناك” للقاموس السياسي، ويصبح لا فرق بين طاولة مقهى ومجلس رسمي. وصار سلال الشخصية الأشهر على موقع التواصل الاجتماعي فأبدع شباب صفحة باسمه ”سلاليات”، تتناول خرجاته ومصطلحاته التي كان لها صدى حتى خارج البلاد عندما تناولت القناة الدولية الفرنسية فرانس 24 مصطلح ”فقاقير” في الجولة الإخبارية الأسبوعية المخصصة لمناقشة ما ينشر على النت. مؤخرا، امتدت موجة السخرية لتطال عدة قرارات وشخصيات، مثل السخرية والنكتة التي بتبادلها رواد الفايسبوك على الشيخ شمس الدين بوروبي ”شميسو أوجحيمس دين” كما يدعوه رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة عندما يتناول الشيخ مسائل ذات صلة بالشأن العام مثل تأهل المنتخب الوطني والانتخابات.. مثلما رافقت النكتة والسخرية أيضا قرار الحكومة الأخير بتأخير إطلاق الجيل الثالث من المحمول، حيث تقول تصور نكتة الرئيس الروسي يطلب الاستفادة من خبرات ”القوة الإقليمية” بعد تزايد الضغط الدولي على وجوب تدمير الأسلحة النووية والكيمائية فيقول بوتين عليكم بالجزائر ومقابل هذه النكتة صورة لعثمان عريوات يقول ”شوف أسيدي أروح تحكم فينا خير، أحنا الجي 3 حاصلين فيه وقالك قوة إقليمية”. وصورة أخرى لشيخ من الجزائر العميقة يرتدي قشابية وهو يضحك ملئ شدقيه على كذبة الجيل الثالث” وعلى قدر الإعاقة اللغوية للمسؤولين السياسيين تأتي لغة شباب الفايسبوك للانتقام منهم، حيث صارت مثلا ألقاب من قبيل ”بومرميطة، بوتحويسة، بوالكيران، الراقي”.. ألقاب تليق بهؤلاء. وما يطلق لغة شباب الفايس بوك هو ما تتيحه هذه المساحة من حرية التعبيرعن الرأي بلا رقيب، وكذا صعوبة ملاحقة هؤلاء، خاصة من ينتحل أسماء شخصيات وهمية أو أسماء مستعارة، إضافة إلى كون السلطات لا تريد صناعة أبطال جديد بملاحقة شباب الفايسبوك وحتى لا تفتح على نفسها أبواب أخرى هي في غنى عنها خاصة في عصر الإعلام المفتوح، وامتداد رقعة الاحتجاجات العربية بسبب الجرعة الزائدة من الحرية التي تتيحها فضاءات التواصل الاجتماعي.