تحت مطر الأخبار المحبطة الذي تغمرنا به السياسة، ومن بين الغيوم السوداء التي تتلبد في الأفق الفلسطيني والعربي، جراء تمادي مأساة الاحتلال، وغزارة الدم المراق في العواصم الشقيقة، سرت في قلبي ومضة فرح وثقة، ليس بفعل تصريحات كيري، وتفاؤله الممل، وليس لأن اليوم الذي أكتب فيه هذه المقالة سوف يناقش ابني محمود رسالته عن ”الإعلام المصري قبل وبعد ثورة يناير ويونيو”، وسيتخرج في جامعة بير زيت بعدها مباشرة، لعله يلتحق بمهنة أبيه، وإنما لما شاهدته ليلة الأربعاء في 28 يناير (كانون الثاني) الحالي، من احتفال زاهر أقيم في مدينة أريحا، التي هي الأقدم من بين مدائن الكون، والتي هي عنوان حل أوسلو المتعثر، ولا أحب استخدام كلمة المحتضر، والتي هي في هذه الأيام كذلك عاصمة الأغوار المحور الرئيسي لمحاولات تحقيق معجزة الحل الفلسطيني الإسرائيلي. كان احتفالا بزفاف المئات من الشباب والشابات، وجزء منهم يعيشون في غزة. كاد العرس الجماعي هذا أن يقدم برهانا ساطعا عن وحدة الشعب الفلسطيني، إلا أن حماس التي لم تسأم كثرة أخطائها، منعت إقامة العرس في غزة، لعل ذلك نوع من أنواع التضامن مع محنة ”الإخوان” في مصر، علما بأنني أرجح أن ترتيبات العرس لم تلحظ تزامنه مع محاكمة مرسي!! كان عرس أريحا الجماعي الذي تم على خير على الأقل في حيز الضفة، بمثابة رسالة عميقة وبليغة بأن أريحا والأغوار ليست مجرد أرض متنازع عليها، بل إنها وطن.. وطن بكل تفاصيله المفرحة منها والمحزنة، والذين ”دخلوا دنيا” ليلة الأربعاء، وفرحوا بحياتهم الجديدة وسيزرعون من الليلة نبتا يانعا يجسد روح الوطن التي لا تخبو، هؤلاء الشبان والشابات وجهوا للعالم أجمع نداء حيا يجسد قوة الحياة الكامنة في الروح والإرادة، التي تنتصر على الموت، فما أعظم الفرق بين دموع الحرية المجيدة التي نذرفها على الشهداء، وحتى حين نستقبل رفاتهم بعد عقود من الاحتجاز في مقابر الأرقام، وبين دموع الفرح لزواج شباب وشابات نجوا من الموت جوعا في مخيم اليرموك مثلا، ومن الموت قهرا في مخيمات الوطن ومدنه وقراه. نعم... وهل الوطن غير هذا النوع من الدموع الحلوة والمرة؟ وهل الوطن غير المكان الوحيد على سطح الكوكب، الذي يكون فيه لزغرودة الأم معنى، ولأغنية أهل العريس إيقاع لا مثيل له في أي مكان في عالم الغربة واللجوء؟ ولصباحية العروس وهي تستقبل فطورها الأول المكون من الزيت والزعتر والشاي المضمخ بالنعناع والميرمية، ثم الغداء الأول الذي تضع فيه الأمهات كل براعتهن في وجبة يحتاجها العريس كي يؤدي واجبه على أكمل وجه. حتى وأنا أكتب هذه الكلمات الصادرة من روحي.. بكيت، وتذكرت زواجي في المنفى وموت جدي وأنا في المنفى وموت والدي كذلك وأنا في المنفى، كان زواجا تنقصه الأهازيج القروية الدوراوية (نسبة إلى مسقط رأسي دورا) المدهشة، التي تترقرق لبلاغتها الدموع من المآقي. وكأن موتا يضاف إلى جانب الحزن البديهي الذي لا بد أن تشعر به، قهر من حرمان لحظة وداع تساوي الحياة كلها. فرح عن بعد، وحزن عن بعد، هذا هو المنفى وليس الوطن. أقترح على الرئيس محمود عباس الذي رعى العرس في أريحا، أن يقدم للسيد كيري في زيارته المقبلة، ألبوم صور للعرسان، ويقول له هذه الصور تكفي لإقناعك بجدارتنا في الأغوار كقطعة من وطن وروح وليس كأي شيء آخر.