إن قبول النخب العربيّة السياسيّة الحاكمة اليوم بفكرة مُعايشة مجتمعاتها لمخاض حقيقي من الصعب تأجيل استحقاقاته، يشترط - أي هذا القبول - لا فقط إعادة النظر في طبيعة السياسات التنموية أو القيام بإصلاحات سياسية وتطوير واقع الحريات العامة في بلدانها، بل المطلوب منها من أجل مواجهة المخاض العميق والكبير مهما بدا صامتا أحيانا ومتقطعا، أن تعرف ثورة فكرية على مستوى تمحيصها لمفاهيم أساسية، إذ لا معنى لأي إصلاح إذا لم يسبقه حراك فكري يشمل ثقافة النخب السياسية الحاكمة ذاتها أولا وأساسا. فالطريقة التي تتصرف بها بعض النخب الحاكمة وفي ضوئها تُصنع القرارات والسياسات والمواقف من المواثيق والاتفاقيات وغير ذلك، هي بالضرورة نتاج ثقافة سياسية معينة. من هذا المنطلق، من غير الممكن اليوم الاستمرار في تبني الثقافة السياسيّة الرسمية التي كانت سائدة في الخمسينات والسبعينات والثمانينات وحتى التسعينات من القرن الماضي، فتلك الثقافة لم تعد صالحة اليوم ولا حتى مقبولة بالنظر إلى التطورات والتغييرات التي عرفتها المجتمعات. أي أن مفهوم السلطة السياسية مثلا يجب أن يقطع مع الشمولية ونمط العلاقة العمودية مع الشعب وثقافة السلطة الأبوية ومفهوم الرعية. وقد تبدو هذه الأمور لا قيمة لها في الظاهر، ولكن من الاستحالة على عقول سياسية تحكم أنظمة جمهورية أن تنتج ثقافة سياسية جديدة معاصرة ومتفاعلة مع القيم الحداثية والإنسانية العالمية وهي تفكر في ضوء مفهومي الأب الحاكم والرعية المحكومة. المفهوم الجوهري الذي يهمنا في هذه المقالة هو مفهوم هيبة الدولة، حيث أصبح من أكثر المفاهيم والتعبيرات الخلافية المتواترة اليوم في الخطابات الإعلامية العربية وأيضا في البيانات والخطب السياسية. ونعتقد أنه كمفهوم يعتبر مثالا جيدا يساعدنا على مزيد توضيح فكرتنا، فهل مفهوم هيبة الدولة اليوم يمكن أن يكون هو نفسه المقصود في الستينات من القرن الماضي عندما بدأت البلدان العربية تتحصل على استقلالها واحدة تلو الأخرى وانطلقت في بناء الدولة المستقلة مع ما يلزم ذلك من تركيز خاص على مفهوم الهيبة؟ لقد كان مفهوم الهيبة في تلك المرحلة يستند إلى مسوغين أساسيين: الأول المشروعية السياسية المرتبطة في الغالب في ذلك التاريخ بمضمون تحقيق الاستقلال. والمسوغ الثاني يتصل بطبيعة المجتمعات العربية آنذاك واستعدادها لتكون رعية أكثر منه شعبا ومواطنين، وذلك بسبب متغيراتها التعليمية والثقافية والاقتصادية. أي أنه يمكن أن نستنتج أن النخب السياسية الحاكمة في المراحل الأولى من بناء الدولة العربية الوطنية المستقلة كانت تعيش نوعا من الخلط والالتباس المقصود بين الهيبة والديكتاتورية. وظل هذا الخلط العشوائي مستمرا مع اختلافات نسبية من بلد إلى آخر. ففي هذا السياق، يمكن أن نفهم جزئيا غيرة الكثيرين من النخب الحاكمة والمعارضة والنخب الثقافية وحتى الكثير من المواطنين العرب على هيبة الدولة ورفضهم الاستنكاري التطاول على الدولة وعلى الفاعلين السياسيين من حكام ووزراء وغير ذلك. فصورة رجل السياسية في المخيال الاجتماعي العربي محاطة بكثير من القداسة، في حين أن فئات من مجتمعاتنا العربية تتابع بلذة خاصة ”تطاول” الصحف الفرنسية والبريطانية والأميركية على الشخصيات الفاعلة الأولى في بلدانها. طبعا المقصود من تناول هذا الموضوع أبعد ما يكون عن الدفاع عن ظاهرة التطاول السلبي الهدام، الذي لا يمت بأي صلة إلى حرية التعبير وأشكال ممارستها اجتماعيا وجماعيا. فالقصد الأساسي التنبيه إلى ضرورة مراجعة مفهوم هيبة الدولة، واستيعاب فكرة أن النقد بل حتى الانتقاد اللاذع لا يُنقص من الهيبة شيئا، بقدر ما يظهر مدى تطور الثقافة السياسية للدولة والفاعلين فيها، وانفتاحها على الآراء الناقدة ومبدأ حرية التعبير. نعتقد أن زمن مفهوم هيبة الدولة الذي لا ينطوي إلا على مضمون سياسي محض قد ولى. ولما كانت غالبية الاحتجاجات العربية اليوم التي حصل فيها مس بهيبة الدولة، هي ذات مطالب اقتصادية صرفة، بل حتى الثورات العربية هي بالأساس نتاج خيبات اقتصادية وفشل في إشباع التوقعات الاقتصادية للمجتمعات العربية وتحديدا فئة الشباب منها... في هذا الإطار يمكننا الاستنتاج أن البعد الاقتصادي اليوم قد أصبح المضمون الرئيس لهيبة الدولة مع تضاؤل بالمقابل للمفهوم الكلاسيكي لهيبة الدولة ذات المضمون السياسي في المقام الأول. فالقلب النابض اليوم لهيبة الدولة اقتصادي في دقاته وفي دورته الدموية، وكلما كانت الدولة أكثر قدرة على حل المشكلات الاجتماعية كانت هيبة الدولة في مأمن من ”التطاول”. لذلك لا معنى للخطابات الرنانة حول هيبة الدولة وتاريخ هذه الهيبة وأمجادها، فالعلاقة بين الدولة والمجتمع مبنية على عقد واضح ودقيق، وأهم بنود هذا العقود الالتزامات الاقتصادية، لأنه وحدها مشكلات البطالة والفقر وغلاء المعيشة تحرك الشعوب، وبالأساس الشعوب العربية.