ترى ما هو القاسم المشترك بين الشاب والكهل؟ بين سائق سيارة الأجرة وقابض الحافلة؟ بين الشاب البطال وطالب الثانوية؟ غير "جزائريتهم" التي أتعبتهم وهم يبحثون عن معنى لها بين الأزقة والشوارع وسط الركض اليومي خلف لقمة وبعض الكرامة. في عيونهم تقرأ رغبة ملحة في إخفاء الانهزام والانكسار اليومي بشبه ابتسامة، لم تكن إلا رداء يخفي أويداري عجزهم عن إيجاد معنى للانحدار اليومي لمعنى الحياة. في عيونهم تقرأ معنى ”الرجلة” عندما تطحنها الظروف وقد أضافت لها الهزائم السياسية الأخيرة بعض التوابل ليرتسم اليأس واللامبالاة، الإستسلام وتقبل الأمر الواقع. فبينهم وبين الآخرين كفر لا تسعه شرائع الأرض ولا السماء، وبينهم وبين الواقع طلاق بائن بينونة كبرى لا يقبل الرجعة. ”هبّط النيفو يطلع المورال”.. أغنية راي ناطقة بسريالية الواقع ”هبّط النيفو يطلع المورال” حكمة جزائرية مفيدة جدا لمحاربة الإحباط، وترسيم الانهيار القيمي والأخلاقي الذي يطوق البلد، حكمة وجدتها ماثلة في أول محل لبيع الاسطوانات دلفت إليه بساحة أول ماي، استقبلنا صاحب المحل بابتسامة وتجاوب مع أسئلتنا ”أعمل في هذا المجال منذ أكثر من عشر سنوات.. انحدر الذوق الفني كثيرا، وحدها أغاني الراي تلقى الرواج أغاني الكباريهات و”الديسكوتاك” تستقطب الشبان رجالا ونساء أيضا”. ما كاد الرجل يتم كلامه حتى دخلت شابة في نهاية العشرينيات طلبت أغنية للشاب حسان ما إن وضعها في المسجلة حتى انبرت الشابة للرقص بدون أدنى حرج على أنغام الأغنية نظر إليها صاحب المحل وقال: ”ألم أقل لك هاذا واش يمشي اليوم” في الأعراس في السيارات، في الحفلات، في الإذاعات، في أماكن العمل.. وحدها أغاني ”الشاب” و”الشابة” تصنع الحدث، إنها تنبت مثل الفطريات لا تتطلب أكثر من بعض كلمات مرصوفة جنب بعضها وبعض الموسيقى الهجينة والإيقاع الصاخب.. الموسيقى الصاخبة والأغاني السوقية تنتقم من الواقع من الغضب والدمار وانسداد الأفق.. الناس تحب تزهى وتنسى، تقتل اللحظة ولا يهم ما يأتي من بعد كيف فسد ذوقنا إلى هذا الحد؟”.. سؤال أجاب الشاب عنه بابتسامة مبهمة، ابتسمت بدوري وأنا أقول لو عرفنا سبب انحدار الذوق بهذا الشكل المخيف ربما ما كان هذا حالنا تأملت رف الاسطوانات بعض الأسماء أعرفها مثل عقيل، هواري الدوفان، هواري منار، عز الدين الشلفي، خيرة، جنات.. لكن أسماء مثل الشاب نجيم وسارة أسمع بها لأول مرة . قال صاحب المحل:”هذا المجال يدفع كل يوم بعشرات الأسماء والناس تبحث دائما عن الجديد، الشباب اليوم يبحث عن نموذج.. عن مثل أعلى في اللباس وفي الأكل فلم يجدوها إلا في نجوم الراي، إنهم يبحثون عن صورة لأنفسهم ولواقعهم لكن بصورة خاطئة”. البعض يدخن السجائر بينما البعض الآخر يدخن أغاني الراي، يبحثون عن واقع آخر لا يوجد هنا. أما صاحب المحل فأحلامه تكفيها عبارة ”إن شاء الله” التي تمتص الممكن والمستحيل، الرجاء واليأس، أوربما هي مجرد عبارة نرددها هكذا لنعبر لمحدثنا أن لا شيء بقي ليقال. الخبز اليومي.. ممارسة للسياسة في منتصف الظهيرة التي تلت ظهور الرئيس، وهو يتلو القسم الدستورية بتلك الطريقة المهينة لرمزية الجزائر، كانت الحياة البسيطة في الشوارع تتواصل، لا شيء سيتغير في حياة هؤلاء البسطاء ”السياسة عندها ناسها”، قال صاحب طاولة السجائر في محطة تافورة، كهل غادرته الحياة مبكرا ينصب طاولته على طول الرصيف، يعد حبات الكاوكاو والسجائر.. بضع دنانير في اليوم، مجرد قتل للوقت وانتظار المستحيل، لكنه يقول الحمد الله رغم كل شيء، كانت عبارة ”رغم كل شيء” تخرج من فمه بمرارة لا تحتويها أرصفة تافورة كلها ولا تسعها أي لغة. غير بعيد منه كان مراهق يتخطى سنواته الخمس عشر بصعوبة، لكن لا يبدو عليه أنه ابن الخامسة عشر، فكلامه يعطيك انطباع أنه كبر داخل كيس بلاستكي ونضج قبل الأوان، توقف عن الدراسة في الصف السابع، توجه بعدها لمقارعة الشوارع، وجد نفسه يبيع قارورات المياه المعدنية في أرصفة ساحة الشهداء.. رمزي يحكي بلغة الكبار، يريد وطنا آمنا يحلم بالتغيير وبثورة لا تشبه ما يحدث الآن في سوريا وليبيا، لكن الجزائر لا تستحق ما يحدث لها اليوم. ختم كلامه بقول ”أخطونا” ترى لمن وجه كلامه هذا؟ على من يعود ضمير الجمع الذي نستحضره كلنا ونخاف منه مثلما نخاف من ظلنا المجهول. رمزي يحلم ”بقطعة خبز والهنا”، لكنها أحلام صعبة على ما يبدو بالقياس إلى الزمن الجزائري. من علمك كل هذا قلت..”الدنيا طاطا”، قالها وغادر ينادي على الماء البارد بين الحافلات المتوقفة على الرصيف الحجري، وهو يهرب من عيون رجل الأمن المتوثبة لمطاردته. محطة تافورة مزدحمة بالحافلات الخارجة والداخلة، تبدو مشاهد الفوضى والدخان وصياح السائقين وزعيق السيارة مألوفة لدى غالبية الشباب الواقفين على عتبات الأبواب، وهم ينادون على زبائن مفترضين عين البنيان، ساحة الشهداء، سعيد حمدين.. يهرول الناس متعبسن، أو مستعجلسن أوكارهين”.. إنه التعبير الجزائري الأكثر استعمالا والأكثر دلالة هنا. زكريا يعمل منذ سنتين كقابض حافلة ”رسوفور” على الخط الرابط بين عين البينان ومحطة تافورة، بدا متحفظا بعض الشيء، لكن بساطة الحديث الذي يلامس واقعه جعله يخرج عن بعض هذا التحفظ ويفتح قلبه قائلا ”مهنة القابض ليست مهنة المستقبل، إنها مهنة الذكريات، أعمل فقط لبعض الوقت في انتظار أن أجد فرصة أفضل. سألته أين ترجو فرصتك هنا أو هناك، فقال ”لا يهم هنا أو هناك، المهم الفرصة وخلاص”. من أعماقي تمنيت ألا تكون فرصة زكريا وأمانيه حبيسة المؤقت الذي يدوم. قال وهو مبتسم ”الغاشي كرّهونا حياتنا كيما تدير تحير معاهم”، العراك اليومي مع الزبائن مشاكل الفكة ”الصرف” والأماكن وأمزجة الناس.. عالم يجعلك تدخل إلى البيت وأنت ممتلئ بنماذج بشرية تعطيك تجربة حياة غنية تكفي لتقتنع أنك يجب أن تهرب مع أول فرصة من هنا. سمير، طالب في السنة الثالثة ثانوي، يستعد لاجتياز شهادة البكالوريا لكن رأسه ”يحلم بالخارج”، كما قال لنا، قريبي الذي لم يواصل دراسته استطاع أن يجد فرصة في بريطانيا وهو اليوم يعيد تأسيس حياته وبداية مشوار تكويني ناجح، رغم أنه في البداية ذهب حراڤ وبدون وثائق، لكن منحة 400 أورو استطاعت أن تبعث في روحه العزم وتعيده إلى سكة الحياة، بينما في الجزائر لا شيء يسير على ما ويرام.. كل شيء بالمعريفة كل شيء مسدود”، لهذا قال هذا الشاب ”أنا سأغادر إن شاء الله إلى فرنسا أو بلجيكا”. أحلامك غضة كثيرا يا بني لمن ستترك البلد؟؟ قال ”هايليك يربحو بها”. في المساحة المقابلة لمستشفى مصطفى باشا الجامعي، نصب جمال طاولته الزجاجية لبيع الحلي التقليدية، هو القادم من ”آث يني” إلى العاصمة بحثا عن ”الخبزة”، ما زال في جعبته بعض الإيمان بالله، ذاك الذي ورثه عن أجداده في القبائل الكبرى، ما زال واثقا أنه لا شيء غير قدرة الله قادرة على تسيير هذا البلد. لهذا فهو يكتفي بالإبداع في الحلي القبائلية، يشتري المادة الأولية ب12 مليون سنتيم للكيلوغرام في حالتها الخام أو بمبلغ 13 مليون في حالة إعادة تصنيعها، ليتفنن في تشكيل نماذج جميلة لحلي نسائية تشهد على تراث عريق لا يموت لا يهتم كثيرا بالسياسة ومشاكلها، منشغل هو بخبزه اليومي.. الكرامة و”النيف” والرجلة.. جمل فقدت معناها منذ زمن ”الله يرحم الشهداء”.. عند هذا الحد توقفت أنا عن طرح الأسئلة لأنها بلا معنى. الرصيف المقابل للمستشفى يخضع لإعادة التهيئة بال”غرانيطو” الفاخر.. طريقة أخرى للافتخار لاحقا بالإنجازات.. وإلى ذلك الحين على جمال ورفاقه البحث عن مكان آخر لعرض سلعهم. يبدو بيع الزهور وعصافير الزينة في رصيف محفور مشهدا فنيا سرياليا يحتاج لأكثر من لغة. إنه يشبه كثيرا أغنية راي تليق بمزاج شارع عاصمي في منتصف الظهيرة التي ظهر فيها رئيس يؤدي اليمين الدستورية..