يقول ابن عطاء الله السكندري:”ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار”. الاضطرار هي الحالة التي تنقطع فيها عن أسباب الكون كلها إلى المُكوِّن، إذ تنمحي عن بصيرتك المؤثرات وآثارها، والوسائط ونتائجها، وتغيب عنك مصادر الحول والقوة، لترى في مكان ذلك كله الواحد الحي القيوم الذي إليه الخلق والأمر وبيده الحول والقوة.. وعندما تتجلى حقيقة افتقارك إليه من دون الكائنات كلها، فلتلتصق ببابه وتترامى على أعتابه، وتسأله سؤال من يعلم مستيقناً أن آماله وآلامه واحتياجاته كلها بيده. فهذه الحالة هي التي تسمى الاضطرار، وصاحب هذه الحال هو المعني بقول الله تعالى:”أمْ منْ يُجيبُ المُضطِرَّ إذَا دعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ”(النمل). إذا تبيّن لك هذا فإن ابن عطاء الله يشبه الاضطرار بشخص يتوسط لك ما تريد، مؤكداً أنك لن تجد وسيطاً يطلب لك ما تبتغيه ويناله لك، مثل هذا الشخص الذي هو ليس أكثر من حالة الاضطرار التي حدثتك عنها. ولكن متى يمرّ الإنسان في هذه الحالة، أي متى يكو مضطراً؟ يظن كثيرٌ من الناس أن الإنسان يقع في حالة الاضطرار عندما تشتد المصيبة عليه بحيث ييأس من معونة أصحاب القدرات والإمكانات ومن سلطان ذوي السلطة والنفوذ، يعود من اللجوء إليهم وطرق أبوابه خائب الآمال.. غير أن هذا التصور غير سديد. إن الإنسان في كل أحواله وسائر تقلباته مضطر، منقطع عن الناس كلهم، وعن سائر الأسباب إلى رب الناس ومسبب الأسباب، وهو الله عز وجل، ولكنه بين أن يكون منتبها إلى هذه الحقيقة، وأن يكون غافلاً عنها. وإنما يكون غافلاً عنها، عندما تكون آماله موصولة بدُنيا الناس وبما يخيل إليه من قوة يملكونها، وإمكانات مادية وعلمية يتمتعون بها، أو عندما تكون آماله متعلقة بما يتوهم أنه يملكه من حيل وقدرات وإمكانات، فيحجبه هذا الوهم عن الشعور بضعفه وعجزه، ويسعى معتمداً على تلك الأسباب التي تتراءى ، إنْ فيما يظن أنه مُتمتع به أو فيما يظن أن الناس الذين من حوله متميزون به قادرون عليه. ثم إنه يصحو من غفلته هذه عندما يطرق أبواب الناس ويبلو أخبارهم ويجرب حظه من نفسه، فلا يجد لديهم ولا من نفسه إلا مظاهر العجز والافتقار إلى الواحد الذي لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته. وبذلك فن تقبل أخي على الله بالدعاء ولا بأمل أو رجاء، إلا إقبال المضطر الذي يعلم أنه لا يملك من أمر نفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً..وعندئذ يكون اضطراره وسيطاً منه إلى ربه في الكشف عن ضره ورفع مصيبته، ولابد ان تكون وساطته له مجدية ومثمرة، وكيف والله هو القائل:”أمْ مَنْ يُجِيبُ المضْطَرَّ إِذَا دعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ”(النمل). إذن فالداعي الحقيقي لا يكون إلا مضطراً، واضطراره هو سر استجابته لدعائه. ولن تجد أخي القارئ ما يسرع إليك بالمواهب الربانية، سواء منها ما خطر في بالك فطلبته، ومالم يخطر في بالك، مثل تذللك وافتقارك إلى الله أي مثل تحققك بهويتك وتجردك عن أوهام غناك وقدرتك. فإن تسترحمه بوصف فقرك وتذكره بوصفه الغنيّ العزيز موكلاً أمرك كله إليه، مفوضاً تدبير شؤونك إلى لطفه وباهر حكمته ستنال السعادة في العاجلة والعقبى. إنك إن استسلمت لتدبيره على هذا النحو، ساق إليك من وجوه الإكرام مالا يخطر منك على بال، وأعطاك من المنح والمنن مالم يكن لديك أمل في نيله. ولعل هذا داخل في معنى قول الله تعالى:”وَمَنْ يتَّقِ اللهَ يجْعًلْ لهُ مخْرَجاً، ويرزُقْهُ من حَيثُ لا يحْتَسِب”(الطلاق) وقوله عز وجل:”ومن يتوكَّلْ على اللهِ فهو حَسْبُهُ”(الطلاق). والحديث القسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى صريح في المعنى بيّن الدلالة عليه، وهو:”من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطيه السائلين”. ولا أتصور ذاكراً يذكر الله بحق دون أن يتصور بين يدي ذكره له فاقته وافتقاره.بل الشأن في الذاكر أنه كلما ازداد استغراقاً في ذكره، ازداد شعوراً ويقيناً بذله وعظيم فاقته وفقره إليه.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي