الفرق بين مواجيد السالكين التي يعذرون فيها وعبارات العلماء الراسخين يقول ابن عطاء الله السكندري:”عباراتهم إما لفيضان وجد، أو لقصد هداية مريد، فالأول حال السالكين، والثاني حال أرباب المَكِنَةِ والمحققين”. السالك هو الذي عرف الطريق وما توصل إليه، والمراد بأرباب المكِنَة العارفون: هم أولئك الذين لا دنيا لهم، لأن دنياهم لآخرتهم، وآخرتهم لربهم.. والوجد: هو قبس من الشوق أو التعظيم يضطرم بين جوانح أصحاب هذا الشأن ربما دفع أحدهم إلى الكشف عما ينبغي أن يظلَّ خفياً في النفس. ومقصد ابن عطاء الله من هذه الحكمة بيان حالات يبوح فيها بعض أصحاب هذا الشأن بما لم يؤذن لهم البوح به، لأسباب هم معذورون في التأثر بها، ويفرق بينهم وبين المتمكنين من عواطفهم المهيمنين على مشاعرهم الوجدانية، فلا يبوحون إلا بما فيه هداية ورشد للآخرين. وهو ما أذن به الشرع فارتفع عن البوح به الحرج. يقول في بيان هذا الأمر: عبارات السالكين - وهم الذين لم يصلوا إلى درجات التمكين بعد - تنبعث من صدورهم في الغالب، بدافع من فيضان الوجد المضطرم في نفوسهم ،دون أن يملكوا قدرة على طيّها في غياهب أفكارهم. وكثيراً ما تكون عباراتهم غير مأذون لهم النطق بها، ولكنهم معذورون في ذلك لوقوعهم في أسر الوجد الملتهب بين جوانحهم. ولعل من الأمثلة على ذلك،ما رواه ابن عطاء الله في كتابه (لطائف المنن)عن سالك محب اسمه (سمنون) أنه كثيراً ما كان ينشد قائلاً: وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني. فابتلي بعلة احتباس البول،فتجلَّد مدة، ولكن الألم زاد، فاستقبل الألم المتزايد بمزيد من التجلد، إلى أن بلغ الألم درجة لم يعد يطيق معها التجلد، فصار يدور على صبيان المكاتب ويقول لهم: ادعوا الله لعمكم الكذاب. وينقل ابن عطاء الله عن شيخه،بعد أن روى هذه القصة، قوله:رحم الله سمنوناً، بدلاً من أن يقول: كيفما شئت فاختبرني، كان ينبغي أن يقول: كيفما شئت فاعف عني، فطلب العفو أولى من طلب الاختبار. فهذا الذي كان يردده سمنون، إنما نطق به لسانه لفرط الوجد الذي هيمن على كيانه، ولو أتيح له ان يتريث فيعود به إلى فكره ووعيه الديني، إذن لوضعه في ميزان الشرع وآدابه، ولعلم عندئذ أن منطق العبودية هو السبيل الأسلم، وإنما يتحقق منطق العبودية بالتذلل والتبرؤ من كل مظاهر الحول والقوة، واستمطار كل ذلك من الله عز وجل.. ولعل من أوضح ما يبيِّن الفرق بين مواجيد السالكين التي يعذرون فيها، وعبارات العلماء الراسخين،هذه القصة الأخرى التي يرويها ابن عطاء الله عن شيخه قال يروي عن شيخه أبي العباس المرسي: دخل على الشيخ أبي الحسن -وهو شيخ أبي العباس - فقير وعليه لباس من شعر. فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا الفقير منه، وأمسك بلمبسه وقال: ياسيدي ما عُبِد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك!.. فأمسك الشيخ ملبسه،فوجد فيه خشونة فقال: ولا عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غنيٌ عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني. أقول: فكلام الفقير منبثق من اصطلام مشاعره بالوجد الذي غيّبه عن مقاييس الشرع وأحكامه، وكلام أبي الحسن الشاذلي منبثق من رسوخ الحال في ساحة شهود الله تحت سلطان الشرع وضوابطه، ومن ثم فإن كلام الفقير وأمثاله ليس أكثر من زفرة دفع بها الوجد، فمردّ كلامه إليه، والفائدة منه محصورة لذاته، وكلام أبي الحسن شعاع هداية وإرشاد للآخرين. فهؤلاء الذين تطفح على ألسنتهم عبارات بدافع فيضان الوجد،قد تكون كلماتهم وعبارتهم مما لم يؤذن لهم البوح بها، ولكنهم معذورون لغلبة الوجد عليهم، فهم ليسوا كالذين لم يؤذن لهم البوح بما في نفوسهم، من أجل رياء تغلب عليهم، أو بسبب خطأ قد يتورطون فيه، أو بسبب عدم مراعاة الحكمة في القول واختيار أمكنة ومواقيت المناسبة، فإن هؤلاء لا يعذرون في الخوض في هذا الذي لم يؤذن لهم الخوض فيه، لأنهم ينطلقون إلى ذلك من حريات يملكونها، ولأن بوسعهم أن يتجنبوا الرياء أو يتقوا الوقوع في الخطأ، وأن يراعوا لحكمة في مخاطبة الآخرين. وإذ تبصرت هذا الذي ينبه إليه ابن عطاء الله، أورثك ذلك أدباً مع هؤلاء السالكين، فلا تحرك لسانك بانتقاصهم، أو توجيه النقد إليهم، فإنهم معذورون لغلبة الوجد عليهم، ولكن بوسعك أن تحاورهم وأن تترفق في التنبيه إلى ما هو الأليق والأفضل، كما فعل أبو الحسن الشاذلي مع الفقير الذي انتقده في ملبسه. وحصيلة القول أن من جملة الكلام الذي لم يؤذن فيه الخوض في سيرة هؤلاء السالكين أو المريدين بالغيبة والنقد، فإنهم معذورون في البوح بما لم يتأت لهم السكوت عنه، ولكن الذي يطيل لسانه في حقهم بالغيبة والنقد غير معذور فيما يبوح به من ذلك. اللهم إلا أن ترى فاسقاً يضل الناس ويلبِّس عليهم دينهم، تحت غطاء التصوف والسلوك ومظاهرهما، فأنت من هذا الرجل أمام منكر يجب النهي عنه ما وسعك ذلك، ويجب تحذير الناس من الانخداع به ومن الانقياد إليه، والله المستعان وهو ولي التوفيق. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي