طرح الروائي كمال داود في لقاءاته الأخيرة التي جلبت إليه غضب بعض الأوساط المثقفة، خاصة المعربين منهم، ولا أتحدث هنا عن قضية التكفير الخطيرة ليس فقط على داود وإنما على كل مفكر يختلف لغة وتوجها عن التيار الإرهابي المتغلغل في وسطنا. طرح - قلت - من جديد مسألة هامة من مسائل الهوية التي يبدو أننا رغم النقاشات الطويلة منذ التعددية خاصة، ورغم دسترة وترسيم اللغة الأمازيغية، لم نتقدم قيد أنملة في حل هذا الإشكال، الذي يبدو أنه زاد تعقيدا، ودفعت الجموع الغاضبة هذه الأيام بالنقاش إلى الطريق المسدود. ردد كمال داود الرافض للعربية لغة له في كذا لقاء، أنه يتكلم اللغة الجزائرية، وهي ليست العربية على حد قوله ردا على منشط تلفزيون الخبر الذي قال له: أليست اللغة الجزائرية هي العربية؟! لكن جوابه جاء واهيا، لما قال إن الجزائرية هي خليط بين العربية والفرنسية وحتى الإسبانية والأمازيغية، وبدا هو نفسه غير مقتنع بما يقول! هل اللغة الجزائرية التي يحدثنا عنها هذا الروائي والصحفي الموهوب، هي اللغة التي يكتب من خلالها أدبا جميلا، يجد فيه أغلب الجزائريين ضالتهم وتساؤلاتهم التي يطرحونها يوميا على أنفسهم، لما تترك لهم هموم أيامهم لحظة للتأمل، والتفكير في المصير والمنشأ؟ لن أجيب على سؤال من واجب من طرحه الرد عليه. فكمال داود فتح جرحا عميقا، فتحه بحسن نية وصدق، لكن يبدو أنه رغم أنه يمتلك جرأة الطرح والتفكير بصوت عال، لا يمتلك الوسائل الكافية لإثبات ما يقول. بل ليس له ما يكفي من النضج الفكري، ليخرج ويتنصل مرة واحدة من لغة لبسناها هوية طيلة قرون. نعم العربية لغة مستعمر، تماما مثل الفرنسية، لكنها أسبق من الفرنسية، وقاومت طوال فترة الاستعمار محاولات محوها ومنع تدريسها، لأن الجزائريين حافظوا عليها محافظتهم على دينهم وجزائريتهم. إن كان داود يعني باللغة الجزائرية لغة الأم، فإنها لا تخرج عن لغتين، العربية والأمازيغية بكل لهجاتها. وكان على داود أن يحذو حذو عالم الآثار، أن ينقب في الإرث الحضاري للجزائر، ليعرف أن اللغة العربية رغم الحروب التي تشن عليها ظلما، ورغم أن المدافعين عنها أهانوها بتزمّتهم وبتخلّفهم، إلا أنها لغة الغالبية الساحقة. لغتي الجزائرية التي أعرفها، وربما أيضا يقاسمني فيها الزميل داود، هي مزيج جميل من عربية وأمازيغية، تقاربت وتلاحمت في كثير من المناطق الجزائرية لتعطي لغة خاصة بنا، عربية اللسان، أمازيغية الملامح والهوية. وكم كنت أسعد وتعلو جسدي قشعريرة وأنا أقرأ روايات صديقتي العراقية إنعام كجه جي، أو كليلة ودمنة كلمات عربية فصيحة كانت تثري لغة جدتي ووالدتي، لكنها سقطت من الكتب المدرسية التي أهملت إرثا غنيا من ثروتنا اللغوية، كانت حتى وقت قريب تستعمل في أحاديثنا اليومية، هذه إذن كلمات عربية؟ وأتساءل لماذا أهملناها واستبدلناها بكلمات فرنسية عقيمة، تسلب لغتنا هويتها وجمالها؟ وأسعد أيضا سعادة المنقب عن الآثار القديمة، وأنا أكتشف من صديقاتي القبائليات، أن كلمات كثيرة كنت أعتقد أنها عربية فصيحة، هي كلمات أمازيغية جميلة، ليس المكان هنا لإحصائها وإعطاء أمثلة عليها، لكنه كلمات جزائرية من أصل بربري وتنطق بلسان عربي فصيح. إذا كانت هذه هي الجزائرية التي يدافع عنها داود، فسنكون كلنا في صفه. لكن هذا لن يجبره في المقابل على القول إنه لا يتكلم عربية. ما لم يعلمه داود أنه رغم ثراء لغتنا العامية التي يسميها هو الجزائرية، فإنها ما زالت تشكل عائقا أمام صناعة السينما، وما زال المشرفون على هذه الصناعة يواجهون حاجز اللغة في كتابة السيناريو، وبأية لهجة ينطقونها، وهي أزمة أثرت سلبا على نوعية الإنتاج وما زالت كذلك، بل زادت تعقيدا!؟