تعاني اللغة العربية في الجزائر من هجر وعزوف من طرف عامة الناس، وبات استعمالها يقتصر على نخبة المجتمع في بعض المحافل السياسية والإعلامية، غير أن الكثير من مصطلحات الجزائريين لها أصولها الفصحى، ويكمن الإشكال حسب المختصين في الألفاظ الفرنسية، والتي كثر استعمالها في التخاطب اليومي بين الجزائريين، وهي في تصاعد رهيب لدرجة باتت فيها لغة الجزائريين غير مفهومة لدى العديد من الشعوب العربية. وحذر مختصون من استعمار لغوي تتعرض له الجزائر، حيث باتت الفرنسية هي السائدة في تعاملات ويوميات المواطنين، أمام تراجع رهيب للغة العربية التي باتت حبيسة المدارس..؟
لا هم تمكّنوا من العربية ولا هم أتقنوا الفرنسية! الجزائريون يتكلمون لغة "هجينة" غير مفهومة لدى العرب..! أضحى المُعرّبون في الجزائر أكثر من يُعانيمن الظلم في المجتمع، لعدم قدرتهم على منافسة "واقع مفروض" يُلزمهم الحديث بلغة "موليير"، في مجتمع يرى في العربية، خاصّة الفصحى "تخلفا ومحدودية المستوى"، في وقت يتفاخر الفرانكفونيّون بفرنسيّتهم "المُكسّرة"، وكأنها حملتهم إلى مصافّ العظماء... فوجد الجزائري نفسه تائه الهوية، يتحدث في الشارع لغة غريبة، تزاوجت فيها العامية بالفصحى والفرنسية بالإيطالية والعثمانية... جولة قصيرة بين شوارع الجزائر تجعلك ترى التخبّط في الهوية، فمعظم اللافتات مكتوبة بمعنى فرنسي وحروف عربية، فترى محلا متعدد الخدمات يصبح "طاكسيفون"، غسل السيارات "لافاج"، "فاست فود"، "فليكسي"... وحتى ولو حاول الجزائري الكتابة بالعربية يرتكب أخطاء فادحة، ففي إحدى اللافتات بالطريق السيّار مكتوب "ولاية... ترحب بضيوفه الكرم". وعندما يتكلم الجزائري ويقول "قْبل ما تْڤاري ديرْ الإشارة لدَرْوات" يلزمك وقت لتحليل معناها. وعُقدة التكلم بالعربية تلازم المواطنين في كل مكان، فقلّة من يملأ الصكوك البريدية والبنكية بالعربية، مفضلين الفرنسية حتى ولو ارتكبوا أخطاء، ومُبررهم رفع المستوى أمام الآخرين، وفنانون ترفّعوا عن العربية فارتكبوا مجزرة لغوية في الفرنسية، فأصبحوا أضحوكة على مواقع التواصل الاجتماعي. والويل لك إذا تحدثت بالفصحى في مكان رسمي، لأنك ستصبح سخرية الحاضرين، من هؤلاء (حورية.ب) صحفية بجريدة معربة، قصدت وكالة عدل بالعاصمة لقضاء مصلحة، عندما سألها الموظف عن وثيقة معينة، ردت بكلمة "نَعَم"، فإذا بزميله يهمس ضاحكا "واقيلا رانا في المسجد"، وعلّق الثاني "...باين انتيّا أستاذة شريعة ولاَّ عربية"، فردت حورية مستغربة "أتستهزئون بلغة القران؟". ومن أغرب القصص التي عايشناها، طالبة جامعية من العاصمة، فسخت خطبتها مؤخرا من شاب يشغل منصبا مهما في إحدى الوزارات، وحجة الفتاة أن خطيبها "يبهدلها" أمام عائلتها وأصدقائها لتمسكه بالحديث بالعربية الفصحى، بحكم عمله فترة طويلة في دولة الكويت، فمثلا كان يرد إذا سألته عن مكانه "راني في المكتب" أو يودعها قائلا "ليلة سعيدة"، وهي المُصطلحات التي رأت فيها "تخلّفا"، وطالبته بتغيير أسلوبه في الحديث لينفصلا بعد كثرة المشاكل...
خبراء في اللغة يؤكدون: الفرنسية سبب انحراف العامية الجزائرية يؤكد الدكتور عبد المالك مرتاض من جامعة الجزائر، وهو يعتبر من القلائل والأوائل الذين بحثوا في الدارجة الجزائرية من خلال كتابه "العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى" "إن البحث في لهجة من اللهجات العامية لا يُعَدّ بالضرورة دعوة إليها، ولا إغراء بإحياء ما اندثر منها، ولا دفعًا إلى استعمالها في الكتابة، وإن كنا نؤثر أن لا يربأ الكتّاب عن استخدام الألفاظ الفصيحة المستعملة في العامية للتقريب بينها وبين الفصحى، فإن معظم الألفاظ العامية الجزائرية فصيحة، وإنما أفسدتها العامة بألسنتها، فأخذت تبتعد عن الفصحى من وجهة أو من أخرى". هدا ويعد تخليص العامية الجزائرية من الشوائب الفرنسية - حسب المختصين - تمهيدا للمشروع المستقبلي والمنشود وهو استعمال اللغة العربية في التداول اليومي، وإن كان صعبا تحقيقه في المدى القريب والمتوسط، طالما لاتزال الفرنسية تطغى في الحديث اليومي لشعبنا، بل تعدى الأمر حدوده حينما نسمع أحد الجزائريين يجيب على تساؤل أحد الأشخاص من دولة عربية شقيقة: لماذا أنتم الجزائريين تستخدمون كثيرا الفرنسية في حديثكم؟ فأجابه الجزائري وبنبرة فيها اندهاش: "إيو؟ سي با فري؟". ومن جهته كشف الأستاذ عمر زرقي، مختص في علم اللسانيات "أن معظم الألفاظ المتداولة عند الجزائريين قريبة من العربي الفصيح، فقولنا مثلا "ماعلاباليش" هي في الأصل "ما على بالي شيء"، أو "الهدرة" وهي مأخوذة من لفظ الهدر الفصيح الذي هو الكلام، أو قولهم "والو" ويقصدون لا شيء والتي هي مأخوذة من عبارة "وَلَوْ".. والأمثلة كثيرة لا يسعني المقام لذكرها. فضلا عن آلاف الكلمات الفصيحة التي لم يمسها تحريف مثل "الخير"، "البرد"، "الشمس"، "الجنة"". وهلم جرا.. لذا أرى أنه ليس بالأمر المستحيل أن نرتقي بعامية الجزائري إلى الفصيح طالما أن الأصل موجود وتبقى أصعب مهمة تجريد كلامنا من الألفاظ إلا فيما اضطررنا إليه، حيث بإمكاننا قول "الإذاعة" بدل "لاراديو" أو "السيارة" بدل كلمة "لوطو" أو "كروسة" (وإن كانت هذه الأخير كلمة إسبانية الأصل) أو قولنا "الهاتف" بدل "التيليفون" وغيرها من الألفاظ، وهنا تظهر جهود الدولة والمثقفين لكي يقوموا بحملة تفصيحية لا تعريبية - على رأي الأستاذ عبد الملك مرتاض - لأن عامة الجزائريين متعربون من حيث لهجتهم ولكل كلمة أصلها ومدلولها العربي إلا ما ندر.
رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية الدكتور عثمان سعدي ينتفض: العربية مهمشة، الفرنسية هي السيدة، إذن فالجزائر لازالت مستعمرة أكد الدكتور عثمان سعدي، رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية، أن وضع اللغة العربية في الجزائر سيء جدا، مشيرا إلى الإدارة المفرنسة، خاصة في القطاع الاقتصادي، الذي يعتبر شريان الحياة هي السبب. وأوضح أن المحيط الجزائري منذ سنة 2000 طغت عليه الفرنسية، من يتجول في شوارع مدينة الجزائر لا يشعر أنه في بلد مستقل. وعبر عن امتعاضه من قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي جمد بدون مرسوم، في الوقت أن المسألة متعلقة بالقرار الأعلى. وختم الدكتور سعدي حديثه بقوله أنه "بعد مرور ستين سنة على الثورة، دم الشهداء يهان في عدم سيادة الجزائر، سيادة أي دولة تتمثل في هويتها الوطنية، ومفتاح الهوية هو اللغة الوطنية أي العربية، العربية مهمشة، والفرنسية هي السيدة، إذن فالجزائر لازالت مستعمرة".
المستشار السابق بوزارة التربية عبد القادر فضيل للشروق: "الفرنكوفونيون" وراء اغتيال "العربية" في الجزائر انتقد المستشار السابق لوزير التربية، الذي شغل بعد ذلك مسئولا عن لجان التأليف المدرسي والبحث التربوي، ورئيس لجنة اللغة العربية، الدكتور عبد القادر فضيل، تجميد قانون تعميم استعمال اللغة العربية، الذي صدر سنة 1990، وقال أن على الحكومة الجزائرية أن تعي الآن بأن التحدي الحقيقي الذي نحن ننتظره هو جعل اللغة الوطنية مفتاح ارتقائنا الحضاري في عصر التكنولوجيا. ويرى انه أصبح من الضروري انتهاج سياسة صريحة في إطار اللغة العربية. وأضاف أن وزارة التربية لا تقدم اللغة الوطنية على أنها ثقافة، لكنها تعتبرها مادة لتحصيل النقاط فقط. وقال الدكتور فضيل إنه من العيب أن تمر 52 سنة عن الاستقلال ولايزال مشكل اللغة العربية مطروحا لحد الآن منذ تجميد قانون التعريب سنة 1992 من طرف حكومة بوضياف، حيث وجه فضيل الاتهام للفرانكوفونيين الذين يمتلكون النفوذ، وقال إن اللغة أصبحت اليوم مشكلة هوية، في الوقت الذي لم يتم التعريب في المطارات والفنادق العامة والإدارة والشوارع وحتى المدارس، رغم الندوة الوطنية التي أقرت هذا التعريب سنة 1975. لا بد من موقف سياسي صريح.
أمين الزاوي: المدرسة الجزائرية أنتجت جيلا مُعقدا لغويا.. شبّه الكاتب والروائي أمين الزاوي في اتصال مع الشروق، حكاية الجزائري مع اللغات بالحكاية الغريبة، فلا هو أتقن العربية، ولا هو تمكّن من الفرنسية حسب قوله، ويقول الزاوي "العقدة جاءت من المدرسة الجزائرية، التي لم تتمكن من تعليم التلاميذ الأبجديات الصحيحة للغة العربية والفرنسية، فأخرجت جيلا معقدا لغويا وسيكولوجيا". ونبّه محدثنا إلى نقطة هامة _-حسبه- وهي أن اللغتين العربية والفرنسية لم تُظلما في الجزائر، المظلوم الحقيقي هي اللغة الأمازيغية، ويُوضح "لو درس الجزائريون الأمازيغية وتعلموها منذ الاستقلال، لما أصبحت العربية الآن عقدة للجزائري". واتهم الزاوي بعض وسائل الأعلام المفرنسة والطبقة السياسية وبعض المثقفين، في التسبب بشعور المتكلمين بالعربية بالدونية وبالتقليدية و"بالعروبية"، بعد ما رسّخوا في ذهنهم أنّ كل متكلم بالفرنسية هو شخص مثقف وعصري وأنيق ومتفتح... والعكس صحيح، وهو ما جعله يقول "الطبقة السياسية في الجزائر نموذج لا يُحتذى بها، بعد ما تسبّبوا في خراب العقول بثقافة هجينة".
بقاط: لهذه الأسباب.. يستحيل تعريب الطب في الجزائر صرح رئيس عمادة الأطباء الجزائريين، محمد بقاط بركاني، باستحالة إدخال اللغة العربية على تخصص الطب في الوقت الراهن، فكليات الطب والوصفات الطبية والتقارير جميعها باللغة الفرنسية، وهو الحال ذاته في جميع الدول العربية والتي تعتمد على اللغتين الفرنسية أو الإنجليزية، وأكد بركاني على أن الأمر يستحيل تطبيقه على أرض الواقع لكون الأبحاث الطبية والدراسات جميعها باللغات الأجنبية، والجزائر تفتقر لأساتذة متخصصين في ترجمة المواد الطبية والعلمية، واستطرد محدثنا بأن الأطباء بالرغم من اعتمادهم على اللغة العربية، والدارجة أثناء التواصل مع المرضى، إلا أن ممارستها كتابة يستحيل. ويرى رئيس عمادة الأطباء أنه في حال فرض اللغة العربية ستزداد تخلفا، ضاربا مثلا بسوريا التي اعتمدت خلال إحدى المراحل اللغة العربية في الطب، إلا أنها ازدادت تخلفا في هذا المجال، وأردف المتحدث بأنه جدير على المشرفين على التعليم فرض مادة خاصة في الأدب الفرنسي على طلاب كلية الطب لتحسين مستوى الأطباء في الجزائر، وحتى يتمكنوا من الإطلاع على كافة الأبحاث والتطورات التي توصل إليها العالم في الطب.
ڤسوم: شباب الاستقلال أصبح معقدا من لغة "الضاد" حذر رئيس جمعية العلماء المسلمين، عبد الرزاق ڤسوم في تصريح للشروق، من هيمنة اللهجة النابية على المجتمع الجزائري، وقال "نحن اليوم نسجل تدهورا في اللغة العربية، في المحيط والمدرسة والمؤسسات الرسمية، والخطابات السياسية، حيث أصبحت شخصيات نافذة في الدولة تتحدث بمجموعة مخارج للغات مختلفة، وبات الشارع الجزائري يحتضن أحاديث ونقاشات بجمل تتكون من التركية والعربية والفرنسية وبلغات اخرى، لست أدري من أين أتت؟!"، يقول الشيخ ڤسوم. وحمل المسؤولية لوسائل الإعلام، خاصة المرئية التي باتت توظف شبابا لا يتحدثون بلغة سلسة وإنما يتلفظون بلهجة شارع عبارة عن خليط من اللغات والمفردات المفبركة. "صورتنا أصبحت سيئة أمام الدول العربية الأخرى، هل يعقل أن يأتي أولياء لجمعية العلماء المسلمين ويطلبون أن نعلم أبناءهم باللغة الفرنسية، لأنها اللغة الرسمية في الخطاب السياسي؟"، ويتأسف ڤسوم أن العائلات الجزائرية لا تفرق بين تعلم اللغة العربية، واللغات الأخرى كسلاح ووسيلة تواصل مع الأجانب.
أخصائية اجتماعية: المدرسة الأساسية قضت على اللغة العربية أوضحت الأخصائية الاجتماعية، نصيرة مراح، أن المجتمع الجزائري يعيش أزمة لغة حقيقية، ففيه تتجلى ثلاث فئات، منهم التي تجيد الحديث باللغة الفرنسية، وهو جيل الاستعمار، والثانية تتحكم باللغة العربية والفرنسية، أي جيل ما بعد الاستقلال، وفئة ثالثة وأخيرة وهي الجيل الحالي تتحدث باللهجة المحلية الدارجة، واستطردت محدثتنا على أن الجيل الذي يستخدم اللغة الفرنسية هم أكثر تحكما في العربية من الجيل الحالي، والذين أثبتوا على أنهم لا يملكون مستوى في اللغتين، وحملت المختصة المدرسة الأساسية والجامعات مسئولية التدهور اللغوي الكبير الحاصل في المجتمع الجزائري، حيث لم يعد الأساتذة يفرضون على التلاميذ التحدث باللغة العربية داخل الأقسام، فحتى الأساتذة يفضلون استعمال اللهجة العامية أثناء تقديم الشروح. وأكدت الأستاذة مراح على أن مشروع التعريب في المدارس والذي أعلنته الحكومة الجزائرية قبل سنوات مشروع فاشل بدليل أن أغلب الشباب الناجحين في البكالوريا علاماتهم في الأدب العربي لا تتجاوز 3 من 20.