هل أراد 2014 أن يترك للعالم إرثا عسكريا جديدا، يمتد في طول وعرض 2015، مقلصا بذلك من فرص الوفاق، وموسعا لمساحات الافتراق، لا سيما من موسكو إلى واشنطن؟ في الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) المنصرم ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاب نهاية العام التقليدي، الذي يماثل خطاب حالة الاتحاد الأميركي، وفيه بدت شكوك بوتين واضحة تجاه محاولات السيطرة الغربية على المصادر الوطنية الروسية، وجعل روسيا لذلك دولة تابعة. في حديثه، استخدام بوتين تشبيه “الدب المقيد”، مشيرا إلى الدوائر الإمبريالية الغربية الساعية إلى تجريد روسيا من مخالبها وقوتها لجعلها جائعة وعاجزة.. هل يمكن لأحد أن يقيد دبا لديه 4 آلاف رأس نووي جاهزة للاستخدام يوميا وموجهة ناحية وصوب أهداف عدة في أوروبا وأميركا؟ علامة الاستفهام المتقدمة تقودنا، ولا شك، للحديث عن الطرح الروسي الأخير المتمثل في العقيدة القتالية العسكرية الروسية الجديدة، وكيفية التحضير للمواجهات القادمة ولا شك مع الغرب... ماذا عن ذلك؟ نهار السادس والعشرين من الشهر الماضي نشر الكرملين النسخة الجديدة من العقيدة العسكرية الروسية، وفيها نرى أن روسيا لا تزال تعتبر حلف شمال الأطلسي التهديد الأساسي للأمن القومي الروسي، كما أن موسكو قلقة بشكل خاص بشأن تعزيز قوات حلف شمال الأطلسي على حدودها، وخاصة في أوكرانيا، وبصورة ما تسبب فكرة نشر النظام الصاروخي الخاص بالحلف هلعا كبيرا لدى الروس. ترى روسيا، وفقا لعقيدتها الجديدة، أن هناك تبريرا لاستخدام القوة العسكرية لصد “العدوان عليها وحلفائها”، وأيضا لحماية مواطنيها الموجودين بالخارج. ورغم أن النص يشير صراحة إلى “انخفاض احتمال نشوب حرب كبيرة ضد روسيا”، فإنه جاء في مواضع أخرى من هذه العقيدة تزايد عدد التهديدات في بعض المجالات، على غرار “المطالبة بأراض من روسيا ومن حلفائها، والتدخل في شؤونهم الداخلية، والسعي إلى نصب الأسلحة الاستراتيجية في الفضاء، وأيضا نشر منظومات أسلحة استراتيجية غير نووية فائقة الدقة”. على أن مصطلحا جديدا يلفت الانتباه في هذه الوثيقة وقد جاء تحت عنوان “الردع غير النووي”، ومفاده أن روسيا ترى جيشها قادرا على منع أي حادث من شأنه أن يشعل نار الحرب، باستخدام الأسلحة التقليدية، دون أن تلجأ إلى استعمال السلاح النووي. أين مفاعيل السلاح النووي الروسي إذن؟ تحتفظ روسيا لنفسها بالحق في استخدام ترسانتها النووية في حالة العدوان عليها أو على حلفائها، أو في حالة “تهديد لوجود الدولة”.. لماذا إقرار هذه العقيدة في هذا التوقيت؟ مؤكد أنها جاءت ردة فعل على منهجية إدارة باراك أوباما في علاقاتها مع دول الجوار الروسي، لا سيما في أوكرانيا ونواحيها، حيث قرر مجلس الأمن القومي الروسي توسيع المناطق الحدودية لروسيا من مسافة 5 كيلومترات إلى 15 كيلومترا، وخاصة في الجهات الغربية. هل جاءت عقيدة بوتين الجديدة ردا على غطرسة سابقة من حلف الناتو؟ قبل انتهاء رئاسته كان الرئيس الروسي السابق ميدفيديف قد اقترح معاهدة أمنية لما بعد الحرب الباردة تحل محل الناتو ومنظمات أخرى، وتحد من قدرة أي دولة على استعمال القوة انفراديا، غير أن المسؤولين عن الحلف أجابوا ب”لا” عريضة، بحجة أنه “لا حاجة إلى معاهدة أمنية جديدة”. هنا يفهم المرء دلالات ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن “علاقات روسيا وحلف شمال الأطلسي تشهد في الأوقات الحاضرة أخطر أزمة منذ أيام الحرب الباردة، وأن الحلف يواصل سياسة احتواء روسيا والخطوات الرامية إلى تعزيز قدراته العسكرية وزيادة وجوده العسكري قرب حدودها. هل تزعج هذه العقيدة واشنطن؟ ربما جاءت بالفعل لإزعاج المزعج الأصيل، وهو عند الروسي في هذه الحالة، إدارة أوباما التي تفعل حروبها المتباينة ضد حكومة بوتين، وليس آخر تلك الحروب حروب العملات، التي يشير إليها أخيرا 2 من كبار الاقتصاديين الأميركيين؛ نورييل روبيني وجيمس ريكاردز، وهدفها القضاء على الرصيد الاحتياطي الدولاري لدى روسيا الاتحادية، وهذا أمر يمثل وسيلة لإدراك هدف أكبر هو إزاحة بوتين، ما دعا صحيفة “الأوبزرفر” البريطانية لأن تتساءل هل الفساد وانهيار أسعار النفط يقودان لانقلاب ضد بوتين؟ يرى البروفسور ماثيو كروستون، مدير برنامج دراسات الأمن الدولي والاستخبارات لدى جامعة “بالفيو” في الولاياتالمتحدة، أن الأميركيين في حاجة لتحرير أنفسهم من الوهم القائل بأن العقوبات تسبب انحدارا رهيبا في شعبية بوتين، ودليل ذلك أن معظم نتائج استطلاعات الرأي في روسيا اليوم، وليست كلها متملقة للحكومة الروسية، تظهر أن نسبة التأييد للرئيس بوتين تصل إلى 80 في المائة خلال هذه الأوقات الصعبة المميزة بالانحدار القوي للروبل الروسي. أمر آخر يستحق قراءة مفصلة لاحقا، وقد يكون سببا لمواجهات ساخنة بين موسكو وبقية العوالم والعواصم الغربية؛ إذ للمرة الأولى تشير العقيدة الروسية العسكرية إلى واحدة من المهام الرئيسة لجيوشها في زمن السلم، وهي “ضمان المصالح الوطنية الروسية في القطب الشمالي”... لماذا؟ لأنه منطقة استراتيجية للتنمية الاقتصادية، وإمدادات الطاقة المستقبلية في روسيا، ويدور نزاع على هذه الثروات ما بين الولاياتالمتحدة وكندا وروسيا، والأمر في حاجة لتفصيلات. الخلاصة.. بوتين استقر رأيه في 2015 على أنه “إن أردت السلم فاستعد للحرب Si Vis Pacem Pare Bellum”.. كما يذهب القول الأوغسطيني العتيد.